أخطاء الفخفاخ تمنح النهضة هامش مناورة أكبر
صغير الحيدري
يرى متابعون للشأن التونسي أن استعجال رئيس الحكومة المكلف في إعلان خطته للمفاوضات الحكومية أعطى حركة النهضة (الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية) خيارات أرحب للضغط باتجاه تمرير إملاءاتها في تركيبة الحكومة المقبلة.
وأعلن الفخفاخ الأسبوع الماضي أن المشاورات الحكومية ستقتصر على من وصفها بالأحزاب الثورية وعلى قاعدة مساندي رئيس الجمهورية قيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الماضية، ما يعني إقصاء كل من حركة قلب تونس (الكتلة البرلمانية الثانية) والحزب الدستوري الحر (الكتلة البرلمانية الخامسة).
وتلقت حركة النهضة الإسلامية “هدية” إلياس الفخفاخ بسرعة لتدفع إلى البرلمان بمشروع قانون تعديل انتخابي يرفع العتبة الانتخابية المعتمدة للفوز بمقعد في البرلمان من 3 في المئة من مجموع أصوات الدائرة الانتخابية إلى 5 في المئة من مجموع الأصوات.
وبمقتضى القانون التونسي فإن قانون العتبة الانتخابية يحتاج إلى تصويت الغالبية المطلقة داخل البرلمان، أي بنسبة 50 زائد واحد (109 نواب)، فيما يضم البرلمان التونسي 217 نائبا.
وتستطيع الحركة (45 نائبا) نيل هذه الأغلبية البرلمانية حيث لا تعارض كتلة قلب تونس (38 نائبا) وكذلك كتلة ائتلاف الكرامة (21 نائبا) والحزب الدستوري الحر (17 نائبا).
وتستحوذ النهضة وقلب تونس والدستوري الحر معا على 109 أصوات من مجموع 217، ما يعني حسابيا أن حكومة الفخفاخ ستتحصل على 108 أصوات وبالتالي ستسقط برلمانيا.
ويدفع هذا التعديل إلى تحجيم دور عدد هام من الأحزاب التونسية غير القادرة على استمالة الناخبين للحصول على 15 في المئة على الأقل من مجموع أصواتهم، وهو ما تستطيع النهضة وقلب تونس فعله.
وبهذا المقترح افتكت الحركة ورقة ضغط (الانتخابات المبكرة) كان رئيس الحكومة المكلف يراهن عليها من أجل تمرير خياراته في التشكيل الحكومي، في خضم تحذيرات من سيناريو كارثي في حال الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
ومن الواضح أن حركة النهضة أدركت أن بإمكانها الإمساك بخيوط اللعبة من جديد بعد أن كادت تفلت من يدها مستغلة في ذلك حالة التشرذم التي تعيشها الأحزاب الوسطية.
ووجد الإسلاميون في إقصاء حركة قلب تونس (ليبرالي) من المشاورات الحكومية هامشا جديدا للمناورة وإعادة خلط الأوراق بعد أن أصروا على عدم إقصاء أي طرف سياسي كشرط رئيسي للتصديق على منح الثقة للحكومة المرتقبة.
ولم تقتصر الضغوط، المسلطة على الفخفاخ، على النهضة فقط؛ فائتلاف الكرامة بدوره يضع شروطا “تعجيزية” للمشاركة في الحكم على غرار المطالبة بمنحه حقيبة وزارة الداخلية، وهو ما سيُقابل حتما بالرفض، أولا لتهافت كل الأطياف السياسية على هذه الوزارة، وثانيا لتشبث العديد من الأطراف، بما في ذلك الأحزاب والمنظمات النقابية، بالنأي بالوزارة السيادية عن التجاذبات السياسية.
وتجعل شروط النهضة واتلاف الكرامة حظوظ الحكومة في المرور أمام البرلمان ضئيلة جدا رغم تفاؤل الفخفاخ في إطلالاته الإعلامية الأخيرة.
ورغم إعلانه عن وثيقة البرنامج الحكومي السبت فإن الفخفاخ لا يزال عاجزا عن إقناع النهضة وائتلاف الكرامة القريب منها بالمشاركة في الحكم.
وهذا ما أعلن عنه عياض اللومي النائب عن قلب تونس، الجمعة، عندما تحدث عن توجه أكبر كتلتين في مجلس النواب، وهما كتلة حزبه والنهضة، إلى عدم منح الثقة لحكومة الفخفاخ.
وبالعودة إلى مسببات هذه التجاذبات السياسية التي طفت على السطح من جديد لا بد من الإشارة إلى أن الأحزاب الوسطية تقف اليوم عاجزة عن إطلاق العنان للإيفاء بتعهداتها الانتخابية.
وليس هذا فحسب، فهذه الأحزاب التي تتخذ من المرجعية البورقيبية توجهات سياسية لها، على غرار حركة نداء تونس أو مشروع تونس أو تحيا تونس أو قلب تونس، كلها قد تراجعت لحساب أذرع الإسلام السياسي على غرار ائتلاف الكرامة الشعبوي.
ومن الواضح أن هذا التراجع يعود بالأساس إلى الانتهازية والزعامتية اللتين تطغيان على قيادات هذه المكونات السياسية، وهو ما جعل الانشقاقات تعصف بوحدتها وتجعلها اليوم أداة في يد الإسلام السياسي لتنفيذ مناوراته.
فعلى سبيل المثال، حزب نداء تونس (الفائز بالانتخابات التشريعية سنة 2014) تآكل خزانه الانتخابي بسبب الانقسامات العميقة داخله وكذلك تحالفه مع الإسلاميين.
وانجر عن ذلك أن عاقب الناخبون التونسيون الحزب، الذي تأسس لتخليصهم من حالة الفراغ التي كانت تعيش على وقعها الدولة التونسية من 2011 إلى 2014، بمنحه مقعدا وحيدا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة مقابل توزيع باقي المقاعد على الحركات المنبثقة عن نداء تونس.
ويتحمل قلب تونس وتحيا تونس جزءا كبيرا من المسؤولية لعدم عقدهما تفاهمات واضحة على مرشح توافقي بينهما قبل إسقاط حكومة حبيب الجُملي.
ومن المنتظر أن يبرز في حكومة الفخفاخ إذا كتب لها النجاح حجم التناقضات في المشهد السياسي التونسي، حيث ستضم أحزابا بالأمس تتهم بعضها البعض بالفساد وبالوقوف وراء أزمات البلاد الاجتماعية.
وحزب التيار الديمقراطي وحركة تحيا تونس، التي يرأس زعيمها يوسف الشاهد حكومة تصريف الأعمال، أبرز مثال على هذه التناقضات؛ حيث اعتادت قيادات بارزة من التيار الديمقراطي، على غرار سامية عبو (نائبة)، على مهاجمة قيادات من تحيا تونس. لكن يبدو أن إكراهات المشهد البرلماني المشتت جعلت اليوم هؤلاء الخصوم يلتقون رغم الانتقادات التي ستُوجه إليهم.
وبعيدا عن المشهد البرلماني الذي تقول النهضة إنها تحاول أن تنهي حالة الانقسام التي تطغى عليه من خلال قانون العتبة فإن الحركة تهدف للحفاظ على نفوذها أمام صعود محتمل لنفوذ الرئيس قيس سعيد الذي أراد وضع رئيس الحكومة المكلف تحت جلبابه ما رأت فيه النهضة محاولة لقلب النظام السياسي.
وفي المحصلة إذا نجح الفخفاخ في تمرير حكومته فإن عمر الأخيرة سيكون رهين عدم إغضاب حركة النهضة التي ستحاول اغتنام أي فرصة للإطاحة به، لاسيما بعد تمرير قانون العتبة الذي سيعزز موقعها في البرلمان خلال الاستحقاقات القادمة.
وإذا نجحت النهضة في إرغام الفخفاخ على القبول بمشاركة قلب تونس فإن ذلك أيضا سيكون بمثابة الضربة القاسمة لبعض الأحزاب على غرار التيار الديمقراطي وحركة الشعب اللذين لن تكون لهما القدرة على اشتراط وزارات بعينها لأن النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس تشكل حزاما سياسيا كافيا لضمان تمرير الحكومة تحت قبة البرلمان.