أزمة النيجر.. معضلة فرنسا كبيرة!
مضى أكثر من شهر على الانقلاب في النيجر، لم يعد الرئيس المعزول محمد بازوم إلى السلطة، ولم يتراجع قادة الانقلاب بقيادة رئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الرحمن تياني. ولم تتدخل فرنسا عسكريا حتى الآن لإعادة ما تسميه “الحياة الدستورية” إلى طبيعتها من خلال إعادة بازوم إلى السلطة.
كما أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا “إيكواس” المؤلفة من 15 دولة وتأسست في مايو عام 1975 لم تتدخل بدورها عسكريا، رغم الإعلان عن قيام عدد من دولها الراغبة بتحضيرات عسكرية إعلامية.
والأهم أن الولايات المتحدة لم تبدِ أي حماسة ملحوظة للاصطدام بالانقلابيين في النيجر، وأبقت على هوامش مستقلة عن الموقف الفرنسي من خلال مروحة الاتصالات المباشرة بالمجموعة العسكرية التي انقلبت على حكم بازوم في 26 يوليو الماضي.
ورغم كل التصعيد الإعلامي من قبل الانقلابيين بوجه فرنسا دون غيرها من الدول المعنية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، لم يخرج الأمر حتى كتابة هذه السطور عن السلمية، أكان في التجمعات أو التظاهرات المناوئة لباريس، على هامش طلب مغادرة سفيرها العاصمة نيامي.
أما التحركات العسكرية التي قامت بها كل من مالي وبوركينا فاسو المؤيدتان للانقلابيين، وإرسالهما بعض الطائرات الحربية من الجيل القديم إلى النيجر، فلم تخرج هي الأخرى عن إطار المواقف السياسية والحرب النفسية.
حتى الآن تبدو باريس في قلب العاصفة التي هبت مع الانقلاب في النيجر، هي المستهدفة تماما كما كانت مستهدفة في انقلابي مالي وبوركينا فاسو اللذين سبقا انقلاب النيجر، والتظاهرات الشعبية التي ينظمها الانقلابيون يوميا تتمحور حول مهاجمة فرنسا وسياستها.
لكن الأمر يمكن، وفي لحظة حساسة، أن يخرج عن السيطرة لتتحول السلمية الراهنة إلى فخ صدام دام أمام السفارة، أو القاعدة العسكرية في نيامي بهدف دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لارتكاب خطأ على الأرض، يقلب الموقف رأسا على عقب.
هوامش مناورة الفرنسيين ضيقة
هذه هي المعضلة التي يقف أمامها الإليزيه في هذه الأيام العصيبة، التي تشهد بها فرنسا احتمال انهيار حجر مركزي في بناء “إمبراطوريتها” في مرحلة ما بعد الاستعمار في غرب إفريقيا.
والحال أن هوامش المناورة ضيقة جدا، لا سيما أن الانقلابيين لم يرتكبوا حتى الآن خطأ التورط في الدم النيجري، أو إلحاق الأذى الجسدي ببازوم بما يعرضهم لتدخل عسكري “مشروع” بذريعة يمكن الدفاع عنها أمام الدول المجاورة الرافضة للحل العسكري، والمجتمع الدولي ككل.
من هنا نقول إن هوامش المناورة أمام الفرنسيين ضيقة للغاية، فكل يوم يمر يترسخ فيه حكم تياني وتتراجع إمكانية إعادة الرئيس المعزول إلى السلطة، وتقترب باريس من الاستحقاق الأهم الذي يؤرقها: احتمال الخروج من النيجر عسكريا واقتصاديا.
لكن مع أن الصورة قاتمة بالنسبة للدبلوماسية الفرنسية، وهي التي يقودها الرئيس شخصيا وبالتالي تنعكس على شخصه وتدخل سلبا أو إيجابا في سجل عهده، فإن عاملين يمكن أن يسعفا باريس ولو جزئيا، الأول أن هوامش واشنطن لا تزال واسعة لعقد صفقة مع الانقلابيين، والثاني أن مقتل قائد مجموعة “فاغنر” الروسية يفغيني بريغوجين تسبب حتما بارتباك في التموضع الروسي بمنطقة الساحل وغرب إفريقيا، وقد يضعف موقف مالي وبوركينا فاسو بما يخلق شقوقا ستتسلل عبرها الولايات المتحدة لتجميد الوضع بانتظار أيام أفضل.
لا تملك باريس في الوقت الحاضر ترف ارتكاب خطأ كبير لا عودة عنه، والتدخل العسكري المباشر من دون مشاركة جدية من دول “إيكواس” إضافة إلى ظهير محلي وازن في النيجر خطوة محفوفة بالمخاطر، كما أن الرأي العام الفرنسي قد لا يكون على الموعد مع قرار كهذا يتخذه ماكرون، المثقل بمشاكل داخلية!