أوجلان… رجل الحرب والسلام

آلان حسن
بعد ما يزيد عن 50 عاماً من الصراع المسلح، يدعو زعيم حزب العمال الكُردستاني عبد الله أوجلان أنصاره إلى إلقاء السلاح، ويقترح حلّ الحزب. وهي دعوة كانت منتظرة في ظلّ تطورات خطيرة تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وبعدما خاض الحزب حرباً ضروساً مع تركيا أنهكتهما، وحصدت أرواح ما يزيد عن 40 ألف شخص، وفق إحصائيات غير رسمية، من دون أن تسجل الحرب انتصار أيٍّ منهما.
جاء الإعلان بعدما خرج زعيم الحركة القومية التركية دولت بهتشلي بمبادرة مفاجئة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تقضي بإطلاق سراح أوجلان ودعوة البرلمان التركي إلى أن يطلب منه إلقاء سلاح حزبه والدخول في عملية تفاوض بشأن حلّ القضية الكُردية، تبعتها تصريحات مشابهة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في توقيت بالغ الحساسية، حيث الصراع الإقليمي بين إسرائيل من جهة، وإيران والقوى الإقليمية الموالية لها من جهة أخرى، وبدأت إرهاصات الإعلان تخرج تباعاً من تركيا، والدخان الأبيض يخرج شيئاً فشيئاً من إيمرلي، حيث يُعتقل أوجلان، ويقود حزبه من هناك، بعدما قاده طوال الأعوام التي سبقت اعتقاله.
الشاب المولود في قرية أمارا في مدينة أورفة، جنوب غربي تركيا، درس الحقوق، ثم العلوم السياسية في جامعة أنقرة، ومن ثم أسّس، مع مجموعة من رفاقه المؤمنين بالفكر اللينيني الماركسي، عام 1978، حزب العمال الكُردستاني، الذي يهدف إلى إقامة وطن للكرد في مناطق توزّعهم في تركيا وسورية والعراق وإيران.
بقي الحزب سرّياً إلى أن أطلق معصوم قرقماز أول رصاصة في طريق الكفاح المسلح للحزب في 15 آب/ أغسطس عام 1984، واستمرّ النضال سنوات طويلة، تأرجحت فيها قوة الحزب بين صعود وهبوط. اضطرّ أوجلان للانتقال إلى سورية، وقاد الحزب منها، وأسس معسكرات في سورية، وفي سهل البقاع اللبناني، وخاض معارك مع الفلسطينيين ضد الجيش الإسرائيلي، وخاصة في معركة قلعة الشقيف عام 1982.
وصلت العمليات العسكرية لحزب العمال إلى مداها في تسعينيات القرن الماضي، ونال الحزب شعبية واسعة في الأوساط الكُردستانية، ووصلت القضية الكردية إلى ذروتها في ذلك الحين، إلا أن تركيا حشدت قواتها على الحدود مع سورية عام 1998 وهدّدت باجتياح الأراضي السورية إذا لم تستجب السلطات السورية لطلبها بتسليم أوجلان، الأمر الذي حدا بالرئيس السوري السابق حافظ الأسد إلى الطلب من أوجلان مغادرة الأراضي السورية في أكتوبر/ تشرين الأول 1998 في رحلة طاردته فيها تركيا من سورية إلى روسيا ثم إيطاليا، إلى روسيا مرة أخرى، فاليونان، انتهاءً بكينيا، حيث ألقت المخابرات التركية، بمساعدة المخابرات الأميركية والإسرائيلية، القبض عليه، في أثناء محاولته مغادرة الأراضي الكينية إلى هولندا. السلطات التركية حكمت بعد ذلك بالإعدام على أوجلان، ومن ثم تم تخفيف الحكم للمؤبد، وبقي في سجنه بجزيرة إيمرلي في بحر مرمرة.
بادر الحزب بوقف إطلاق النار بعد اعتقال زعيمه، لكنّ المحاولات باءت بالفشل، وعقد محادثات سرّية مع الجانب التركي في أوسلو بين عامي 2009 و2011، ثم انهارت بعد اشتباكات وقعت بين الجنود الأتراك وحزب العمال الكردستاني في يونيو/ حزيران 2011. وفي 2013، جرت مفاوضات جديدة بين أوجلان والاستخبارات التركية، تُوِّجَت بدعوة أوجلان إلى إنهاء النزاع المسلح، وإعلان الحزب وقفاً لإطلاق النار مع تركيا، لكنّ الصراع ما لبث أن تجدّد بعد أشهر قليلة، وتمركز عناصره بعدها في جبال قنديل في إقليم كردستان العراق الذي جعلها منطلقاً لهجماته ضدّ الجيش التركي.
يبدو أنّ أوجلان قد توصّل إلى قناعة أنّ الطريق الأقصر لنيل حقوق الشعب الكردي في ظلّ التطورات الدولية إنّما يكون عبر الآليات السلمية، وأنّ الحرب لم تعد تجدي نفعاً في قضايا الشعوب، فالحزب الذي بدأ تصاعدياً نحو الصراع العنيف، وجد نفسه اليوم أمام واقع مختلف عمّا كان عن نشأته. وعليه، التكيف مع التطورات هو الطريق الأسلم للاستمرار، وهو ما يبدو أنّ أوجلان اختاره في ندائه الأخير.
كان أوجلان براغماتياً أغلب مراحل نضاله، حيث تخلّى عن فكرة الدولة القومية الكردية الكبرى التي أسّس حزبه على أساسها، مقابل إنشاء كونفيدراليات مجتمعية تكون بمثابة حلّ لقضايا شعوب الشرق الأوسط ككلّ، ومنها الشعب الكُردي المتوزّع في تركيا وسورية والعراق وإيران.
من الواضح أنّ أوجلان قد انتقل بخطاب السلام إلى المرحلة الثانية من مراجعاته الفكرية، وهي مرحلة انتصار السياسة على السلاح، وبذلك يعوّل على الزخم الشعبي الكُردي الذي اختبره في الانتخابات البلدية والبرلمانية التركية في الدورتين الأخيرتين، حيث دخلت الأحزاب الكُردية المقرّبة من حزب العمال الكردستاني البرلمان التركي لأوّل مرة في تاريخ الكرد.
وبذلك ستكون جبهة الصراع في المستقبل سياسية وحسب، وستكون صناديق الاقتراع الميدان الوحيد للتنافس. كما أن العلاقة المتجدّدة مع زعيم الحزب الديمقراطي الكُردستاني مسعود البارزاني هي الأخرى من بين الأمور التي يعوّل عليها أوجلان، إذ يرى في البارزاني ممثلاً موثوقاً للتفاوض بخصوص القضية الكُردية في تركيا.
وفي سورية، يرى أوجلان أنّ قوات سوريا الديمقراطية بزعامة مظلوم عبدي هو الآخر يستطيع أن يمثل آمال كُرد سورية في سعيهم إلى نيل حقوقهم في سوريا الجديدة. أما في إيران، فلا يبدو أن حزب العمال الكُردستاني سيقدِمُ على تحريك ملف الكُرد هناك.
مفاد رسالة أوجلان جعل السلام خياراً استراتيجياً لكُرد تركيا، وطيّ صفحة الصراع المسلح بعد سنوات دامية. وعليه، ستكون المرحلة المقبلة ماراثون مفاوضات سياسية، من المتوقع أن تشترك فيها قوى كُردية ودولية بغية حلّ القضية الأعقد في المنطقة، إن في تركيا أو سورية.