أوكرانيا ومعركة السرد
عبد العزيز الخميس
الأزمة الأوكرانية بكل ما حملته من أحداث وبكل ما شابها من تصريحات، هي مجرد شجرة تخفي غابة المصالح المتقاطعة وامتدادات التاريخ وحسابات الجغرافيا. تقاطع المصالح انعكس على تباين زوايا النظر إلى الأزمة المندلعة في الجمهورية السوفياتية السابقة، وتباين زوايا النظر المشار إليه تجلى في إطلاق سرديات مختلفة للقضية نفسها.
سرديات لا تعبر فقط عن اختلاف عادي في النظر للقضية، بل تنطلق أيضا من حسابات داخلية لكل صاحب رواية، والروايات هنا ليس هدفها إصدار موقف دبلوماسي من الأزمة الأوكرانية، بل أساسا توجيه الرأي العام الداخلي والدولي نحو تبني تلك القصة. على ذلك كانت الرواية الأميركية معبرة عن حسابات اقتصادية معروفة ومتداولة تعكس أزمة داخلية، وكانت الرواية البريطانية منطلقة بدورها من حسابات داخلية، والسردية الفرنسية عبرت عن قراءة للوضع الداخلي في علاقته بمآلات الأزمة على الصعيد الاقتصادي، والمثير أن الرواية الأوكرانية (التي أطلقها الرئيس فولوديمير زيلينسكي) كانت أقل الروايات صخبا و”هيستيريا” وفق وصف الدبلوماسية الروسية للقراءات الغربية للحدث الأوكراني.
في أصل القضية رغبة أوكرانية بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ورفض روسي نابع من مخاوف من حلول القوات الغربية على حدودها، وفيما أبعد من قضية حلف الناتو، نزاع روسي أوكراني على الجغرافيا والخرائط، وفي ذلك أيضا أحداث في التاريخ ووقائع في الجغرافيا. لكن كل هذه الأبعاد لا تكفي لوحدها لفهم الروايات الغربية للقضية. يحاول ساسة الغرب إشاعة حالة من “الذعر” في العالم، بالتخويف من ضربة روسية على أوكرانيا ستحدث خلال دقائق. السرد الغربي الهادف إلى صنع رأي عام موال لوجهة نظره ولحرف الأنظار عن القضايا الداخلية ليس جديدا. قبل غزو العراق شاعت روايات أميركية وبريطانية كاذبة مشابهة، لكن السرد الأميركي والبريطاني، وقتذاك، نجح في إقناع قوى كثيرة بضرورة ضرب العراق قبل أن “تدمر الصواريخ العراقية عواصم كثيرة في العالم” كما روج كولن باول وتوني بلير وقتها.
جاءت الأزمة الأوكرانية الجديدة، في توقيت سياسي موسوم بتصاعد أزمات الحكومات الغربية على المستوى الداخلي، إذ تراجع منسوب الثقة الداخلية في الحكومة الألمانية إلى مستوى 46 في المئة، وإلى تقلص نسبة ثقة البريطانيين في حكومتهم إلى 44 في المئة، في حين ناهز انحدار ثقة الأميركيين في عمل حكومتهم نسبة 43 في المئة. ولا شك أن تراجع ثقة الشعوب الغربية في حكوماتها ناتج عن أسباب اقتصادية واجتماعية، لكن هذه النسب المتدنية للثقة في كبرى العواصم الغربية دفعت إلى اللجوء إلى الحرب الدعائية، أولا لمحاولة لفت الأنظار عن الأزمات الداخلية وثانيا لتوجيه الرأي العام الداخلي والدولي نحو مقاربتها الخاصة في القضايا العالمية الحارقة.
مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، قاد معركة السرد الأميركية وسوق لرواية بلاده حين قال الأحد الماضي إن الغزو الروسي لأوكرانيا قد “يبدأ في أي يوم. لا يمكن تحديد اليوم الذي ستغزو فيه روسيا أوكرانيا، إلا أنه يجب على العالم أن يستعد لذلك”. وزير الدفاع البريطاني بن والاس ذهب أبعد من ذلك حين قال إن “شيء من رائحة ميونيخ في الأجواء”، في إشارة إلى الاتفاق الذي أبرم عام 1938 مع ألمانيا النازية والذي فشل في تجنب الحرب العالمية الثانية. تعزز الموقف الأميركي والبريطاني بتصريح المستشار الألماني أولاف شولتس ومفاده أنه “في حال تعرض أوكرانيا لعدوان عسكري يهدد سلامتها الإقليمية وسيادتها، فستكون هناك ردود أفعال وعقوبات قاسية للغاية”. وانضم وزير الخارجية الفرنسي جان-أيف لودريان إلى مجموعة التخويف الغربية حين اعتبر أن “كل العناصر متوافرة لتشنّ روسيا هجومًا قويًا على أوكرانيا”.
قرأت موسكو كل مفردات الرواية الغربية، وفهمت أنها عملية تخويف مقصودة، تهدفُ إلى تكريس رواية غربية لا صلة لها بحقيقة الوضع على الحدود الروسية الأوكرانية، بل يرادُ بها صنع رأي عام دولي مناهض لروسيا أكثر مما هو مناصر لأوكرانيا. ولذلك قال الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، إن “التوترات تفاقمت جراء إعلانات وأفعال ملموسة من جانب الولايات المتحدة والناتو”، وندد بـ”هستيريا في أوروبا”. تبينت موسكو أن الغرب بصدد محاكمة مسبقة للنوايا ولا يقرأ الأفعال والمواقف وفق مساراتها العادية. المثير في القضية أن طرفي النزاع (روسيا وأوكرانيا) يحاولان التقليل من جموح الهيستيريا الغربية، في حين تصر كبرى الدول الغربية على صواب روايتها. ولو نقرأ تصريحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، التي قال فيها إن “التحذيرات من غزو روسي وشيك لبلاده تثير الهلع، ولا تساعدنا”، مطالباً بدليل قاطع على هجوم مخطط له” لتبينّا أنها مواقف غير بعيدة عن الموقف الروسي في مستوى التقليل من لغة التخويف المهيمنة على وسائل الإعلام.
دأبت الولايات المتحدة وبريطانيا، خاصة، على صنع حالة من الذعر والهلع، تهيئ الرأي العام الداخلي والدولي على تقبل تحركات أو عمليات قد تبدو مستبعدة قبل ذلك. ولنا في المثال العراقي في الفترة السابقة للعام 2003 مثال دقيق على هذا النهج الدعائي السياسي. وفي الأزمة الأوكرانية الراهنة، لا تبدو الوقائع على الأرض متناسبة مع التخويف الذي نلمسه في الروايات الغربية. حشدت روسيا فعلا قواتها على الحدود مع أوكرانيا، وهذا تحرك أكدته الصور والمقاطع المصورة ولم تنفه موسكو، لكن منطلقات موسكو لهذا التحرك ليست تلك الماثلة في الروايات الغربية. تحركت موسكو عندما استشعرت خطوة احتمال انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي واقترابها من المدار الأوروبي بما يعنيه ذلك من خسارات في الاقتصاد واقتراب أوروبي من الأراضي الروسية. قد يقول قائل إن أوروبا وحلف شمال الأطلسي نجحا في الولوج إلى الحدود الروسية عبر ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا وتركيا، وكلها دول ذات حدود مع روسيا، لكن موسكو لا تنظر لهذه الدول النظرة ذاتها التي تنظر بها إلى أوكرانيا التي توجد بينها وبين روسيا نزاعات تاريخية حول القرم، وهي أراضي روسية وفق رواية موسكو التي تنهلُ من التاريخ ومن السياسة ومن الجغرافيا.
تخرجُ أوكرانيا بالتدريج من الفلك الروسي وتسير نحو المدار الأوروبي، وهذا الانزياح الذي بدأ حثيثا منذ العام 2014 (منذ إنهاء سلطة الرئيس المقرب من موسكو فيكتور يانوكوفيتش) يقلقُ روسيا التي صاغت منذ ذلك الحدث روايتها الخاصة للوقائع السياسية المتاخمة لحدودها، في منطقة لطالما حاولت موسكو صونها وحمايتها من التمدد الأوروبي.
الثابت أن ما يحدث في أوكرانيا ليس مجرد معركة سياسية، ميدانها المصالح والاقتصاد والحسابات الجيوسياسية، بل هي أيضا معركة سرد، تتصارع فيها الروايات لما يحدث في تلك المنطقة. هنا علينا أن نستحضر ما أوردناه سابقا من نسب تراجع الثقة في الحكومات الغربية، وتعززه استطلاعات رأي أخرى تقول إن 26 في المئة من الأميركيين يعتبرون أن “جو بايدن هو رئيس دمية تسيطر عليه دولة عميقة”، وتضيف أرقام استطلاعات الرأي أن 31 في المئة من الأميركيين و28 في المئة من الفرنسيين و23 في المئة من الألمان يعتقدون، أنه من المؤكد أو من المحتمل أن هناك “مجموعة واحدة من الأشخاص تتحكم سرًا في الأحداث وفي وإدارة العالم معا”.
هذه الأرقام متضافرة تجعلُ من مفردات الذعر والتخويف والتهديد المودعة في التصريحات الغربية مجرد أدوات لترسيخ موقف عام داخلي ودولي، يتبنى الرواية الغربية. وهي رواية يبددها الاقتراب المثير بين مواقف طرفي النزاع (روسيا وأوكرانيا) في مستوى التقليل من المخاوف الغربية، بل والمطالبة بقرائن على صحة ووجاهة تلك المخاوف. ولذلك فإن الشك المتطرف غير العقلاني الذي أشاعته الرواية الغربية، منحت للسرد الروسي المزيد من الوجاهة والعقلانية. ويبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمتلك رواية أكثر تماسكا لما يحدث على حدود بلاده لا لقوة حججه وإنما لضعف سرد الدول الغربية، ولو استمر الغرب في هذا الضخ السردي فقد يبدو الأمر محفزًا لبوتين ومغريا لتبرير قضمه لشرق أوكرانيا.