إذلال روسيا أم إذلال أوروبا!
عاطف السعداوي
دائمًا ما يكون طرفا أي حرب أو أزمة دولية هما الأكثر تضررًا والأكبر خسارة والأشدّ تأثّرًا من مجريات هذه الأزمة أو تلك الحرب وتداعياتها وتبعاتها المباشرة وغير المباشرة، القريبة والبعيدة، لكن الحرب الروسية الأوكرانية ربما تعطي تفسيرًا مغايرًا عما اعتدناه في حسابات المكسب والخسارة في الحروب والأزمات الدولية.
فبعد أقل من مرور ثلاثة أشهر على اندلاع هذه الحرب التي تحولت لأزمة دولية يبدو أن خسائر طرفيها المباشرين وهما روسيا وأوكرانيا أقل من الخسائر التي تكبدتها وما زالت تتكبدها أطراف أخرى لا تنخرط في هذه الحرب بشكل مباشر، لكنها تدفع ثمنًا باهظًا يزيد كثيرًا عما يدفعه طرفا الأزمة.
رغم أن خسائر طرفي الأزمة يمكن تبريرها وتسويقها داخليًّا، لكن خسائر الأطراف الأخرى يصعب تسويقها داخليًّا رغم محاولات تبريرها خارجيًّا، فأوكرانيا يمكن أن تبرر خسائرها بأنها حرب مفروضة عليها وأنها لم تختر توقيتها ولا مكانها، وأنها تخوضها حفاظًا على وحدة أراضيها وسلامة شعبها، وهي المبررات التي يقدمها دائمًا رئيسها أمام شعبه رغم أنه سبب رئيسي في الأزمة.
وروسيا يمكن أن تبرر عمليتها العسكرية في أوكرانيا على أنها ضرورة لأمنها القومي نتيجة لممارسات عدوانية وغير منضبطة من جارتها تهدد أمنها واستقرارها وتقرّب أعداءها التاريخيين من حدودها، أو أنها صدّت عدوانًا محتملًا بشكل استباقي، وكلا الطرفين نجح في ذلك إلى حد كبير، لكن قادة معظم الدول الأوروبية التي تضررت اقتصاداتها بشكلٍ أكبر مِن الضرر الذي لحق بالاقتصادين الروسي والأوكراني فشلوا أمام شعوبهم في تبرير ما لحق بهم من ضرر نتيجة رهن مقدرات دولهم وشعوبهم للقرار الأمريكي بفرض عقوبات اقتصادية على الجانب الروسي وشحن حرب تجارية شاملة عليه، إذ كيف سيقنع زعيم أوروبي شعبه أن معاناته من ارتفاع الأسعار أو نقص الطاقة أو ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والمشتقات البترولية إلى مستويات غير مسبوقة وصلت في المتوسط حتى نهاية مارس الماضي إلى 45% أو صعوبة السفر والتنقل أو صعوبة الحصول على المواد الغذائية، هي نتيجة مساندة بلاده لأحد أطراف حرب أبعد ما تكون عن حدوده وليست لها علاقة مباشرة بأمنه الشخصي أو أمن بلاده القومي، فلماذا إذًا يدفع ثمنها من جيبه الخاص؟
ليس هذا فحسب، بل يمكن أن تكون لهذه الحرب تداعيات وجودية على بقاء الاتحاد الأوروبي ذاته وليس فقط على رفاهية شعوب دوله، ورغم تفاوت التقديرات على مدى تأثير العقوبات الغربية الواسعة ضد موسكو على اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي الـ27، فإنها تبدو ثقيلة حتى في أدنى مستوياتها، فوفقًا لتقديرات مصلحة الإحصاء الأوروبي “يورو ستات”، فإن النمو الاقتصادي الأوروبي سيتعرض لخسارة تتراوح بين 0.5% و1% من ناتجه المحلي خلال العام الجاري، أي ما يتراوح بين 895 مليار دولار و1.79 تريليون دولار، المفارقة هنا أن هذه الخسارة المتوقعة خلال عام واحد أعلى بكثير من خسائر أوروبا خلال أربعين عامًا كاملة نتيجة التقلبات المناخية، حيث تسبّبت العواصف والفيضانات وغيرها مِن التقلبات المناخية الشديدة في أضرار اقتصادية بنحو نصف تريليون يورو فقط في أوروبا بين عامي 1980 و2020، حسب وكالة البيئة الأوروبية.
وفي تقرير حديث للبنك المركزي الأوروبي، فإن الأزمة الأوكرانية ستخفض النمو الاقتصادي لأوروبا بنسبة 0.7% إلى 3.7% خلال العام الجاري. كما أشار بنك الاستثمار العالمي جولدمان ساكس إلى أن الحرب ستخفض معدل النمو الاقتصادي لمنطقة دول اليورو بنسبة 1.4%.
هذا بالإضافة إلى التكاليف غير المباشرة؛ مثل تكاليف الأمن والدفاع في دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني زيادة التمويل عبر الاستدانة، فألمانيا على سبيل المثال تنوي تحديث جيوشها بنحو تريليون دولار، وهناك دول أخرى تخطط لزيادات كبيرة في ميزانية الدفاع بسبب الخطر الروسي المزعوم. هذا بالإضافة أيضًا إلى كلفة إعادة إعمار أوكرانيا المقدرة حتى اللحظة بنحو 600 مليار دولار، والتي ستلقى بكل تأكيدٍ على عاهل الدول الأوروبية، ناهيك بتكاليف إيواء اللاجئين الأوكرانيين في الدول الأوروبية، والمساعدات التي ستدفعها أوروبا لمواطنيها من محدودي الدخل والفقراء لمواجهة فواتير أسعار الطاقة المرتفعة.
وفي التضخم، يظهر حجم الأثر البالغ الذي تسبّبت به الحرب الروسية الأوكرانية على أوروبا، فقد سجلت نسبة التضخم في الاتحاد الأوروبي 7.8% في منطقة اليورو و7.5% وذلك في أعلى مستوى منذ 30 عامًا.
مع بدايات الأزمة، وتحديدًا في مارس الماضي، قال الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير، إن بلاده صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا ستواجه فترات “أكثر صعوبة” جراء الهجوم الروسي على أوكرانيا، مؤكدًا أن العقوبات ستؤدي لا محالة إلى قلاقل وخسائر “بالنسبة إلينا”. وأضاف: “سنواجه في ألمانيا أيامًا أكثر صعوبة، والكثير من المشقات، ويجب علينا أن نكون مستعدين لتحملها، وكذلك استعدادنا لمواجهة قيود سيكون مطلوبًا لفترة طويلة”. معترفًا بأن العقوبات المفروضة على روسيا لن يقتصر تأثيرها على الشركات الروسية فحسب، وإنما حتى على الشركات الألمانية، نفس الأمر ذهب إليه سيجفريد روسورم رئيس الاتحاد الصناعي الألماني (BDI)، عندما توقع أن تتحمل الصناعة الأوروبية خسائر اقتصادية ضخمة خلال السنوات القريبة القادمة نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والثغرات في سلاسل التوريد.
ربما كانت حسابات الرئيس الألماني في ذلك الوقت أن هذه الأزمة قد تنتهي سريعًا، ومع ذلك توقع خسائر كبيرة للاقتصاد الألماني وأيامًا صعبة لشعبه، لكنه ربما لم يتوقع أن يكون التأثير إلى هذا الحد، خصوصًا إذا استجابت أوروبا، وتحديدًا ألمانيا، للضغوط الأمريكية بإدراج قطاع النفط والغاز في قائمة العقوبات المفروضة على روسيا، حيث قدّر خبراء اقتصاد الخسائر الاقتصادية لألمانيا التي قد تنجم عن وقف واردات الطاقة الروسية بنحو 3 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي، في ظل اعتماد ألمانيا بشكل كبير على واردات الطاقة الروسية، وفي ظل صعوبة وتعقد مسألة استبدال واردات الغاز الروسي، وفي ظل ما كشفت عنه المفوضية الأوروبية، الأسبوع الماضي من حزمة عقوبات جديدة على روسيا تتضمن حظر واردات النفط الروسي بحلول نهاية العام، يبدو أن ألمانيا ستعيش مع الشتاء المقبل أيامًا أكثر صعوبة مما توقعه رئيسها إن لم تحافظ على استقلالية قرارها السياسي والنظر إلى مصلحة الشعب الألماني أولًا، والتعامل بشكل أكثر براجماتية وعقلانية مع ضغوطات الجانب الأمريكي الذي لديه أسبابه الخاصة بإطالة أمد الأزمة إلى أطول فترة زمنية ممكنة، وهي الأسباب المدفوعة برغبته في حصار روسيا وإهانة كبريائها لا تحرير أوكرانيا ولا دفاعًا مزعومًا عن “عالم حر” لا يوجد سوى في المخيلة الأمريكية.
ربما يكون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد بدأ يدرك أخيرًا خطورة الارتهان لرغبة الإدارة الأمريكية الديمقراطية في تصفية حساباتها التاريخية مع عدوها التقليدي روسيا، عندما أعلن أول أمس خلال مؤتمر صحفي في البرلمان الأوروبي من ستراسبورغ، أنه من أجل “إنهاء الحرب التي يشنها الجيش الروسي في أوكرانيا يجب بناء السلام من دون إذلال روسيا”، ربما لأن الرئيس الفرنسي أصبح يدرك أن الرغبة الأمريكية في إذلال روسيا لن تتحقق إلا عبر إذلال أوروبا أولًا بتدمير اقتصاداتها والاستيلاء على قرارها السياسي، وهذا ما لن تقوى عليه أوروبا ولن تقبل به شعوبها، ولا ستسمح به روسيا وقيادتها.