إلى أين يسير العالم؟
د. عبد المنعم سعيد
الأمر الذي اتفق عليه المحللون والمراقبون هو أن العالم سوف يتغير نتيجة “كوفيد-١٩”، ولكن ما اختلفوا عليه كان مدى التغيير، وفي أي اتجاه، وفي ذلك انقسموا إلى اتجاهين: أولهما أن العالم سوف ينقلب رأساً على عقب، باختصار سوف يكون هناك عالم آخر. وثانيهما أن الأزمة في حقيقتها “كاشفة” عن عالم كان يتغير بالفعل، وما علينا إلا مراقبة ما كان من تغيرات تكنولوجية وفي توازنات القوى الدولية حتى نرى ما نراه الآن وما هو قادم أيضاً.
ولكن ما بين الاتجاهين مسافات كثيرة وظلال بين وجهة نظر وأخرى، ففي الأولى تنبثق حروب عالمية وانهيار حائط برلين مؤذناً بانتهاء الحرب الباردة، وما كان من أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، وما جرى بعد ذلك من الأزمة الاقتصادية والمالية في ٢٠٠٨، وغيرها من أزمات فارقة في تاريخ العالم. وفي هذه الحالة فإن “جائحة الكورونا” أدت إلى تحطيم الحياة حينما أصيب بالمرض أكثر من ثلاثة ملايين من البشر، ووفاة مئتي ألف، وتعطيل الأسواق، وكشف كفاءة الحكومات (أو انعدامها)، فالمتصور بعدها أن تحدث تحولات دائمة في القوة السياسية والاقتصادية بطرق لن تظهر إلا لاحقاً.
وفي الثانية فإن صعود الصين، والتطور التكنولوجي الذي دمج ثورة المعلومات مع ثورة التكنولوجيا الحيوية خلقت ثورة تكنولوجية عالمية رابعة حتى قبل أن تترسخ نتائج الثورة الثالثة، والظهور الكبير لما سمي “سياسات الهوية” التي تجابه “سياسات العولمة” والدعوة إلى إعادة تأسيس المؤسسات الدولية؛ كل ذلك كان موجوداً، وما بقي هو معرفة ما جرى عليها من تغيرات بعد حدوث الجائحة. دورية “السياسة الخارجية” الأمريكية حاولت التوصل إلى أبعاد المدرستين من خلال استطلاع رأي ١٢ من المفكرين والمحللين. وفيما يلي عرضاً مختصراً لوجهات النظر هذه.
البداية كانت مع “ستيفن والت” أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، وكتب تحت عنوان يلخص المسألة كلها بأن عالم ما بعد الكورونا سوف يكون “عالماً أقل انفتاحاً وازدهاراً وحرية” لأن الوباء سيقوي الدولة ويعزز القومية، وستتبنى الحكومات بجميع أنواعها إجراءات طارئة لإدارة الأزمة، وسيكره الكثيرون التخلي عن هذه السلطات الجديدة عند انتهاء الأزمة. سوف تسرع “كوفيد-١٩” أيضاً من تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق؛ فقد استجابت كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكل أفضل، وكان رد فعل الصين جيداً بعد أخطائها المبكرة؛ بينما كانت الاستجابة في أوروبا وأمريكا بطيئة وعشوائية بالمقارنة، مما زاد من تشويه هالة “العلامة التجارية” الغربية.
لم تنه الأوبئة السابقة التنافس بين القوى العظمى ولم تستهل عصراً جديداً من التعاون العالمي. ولا “كوفيد-١٩” سوف يؤدي إلى هذه النتيجة فربما يضيف للتراجع الجاري في العولمة، ولكنها سوف تكون باقية. “روبين نيبليت” عالم العلاقات الدولية البريطاني، يصل فوراً إلى “نهاية العولمة التي نعرفها”، وقد تكون جائحة الفيروس التاجي هي القشة التي قصمت ظهر البعير للعولمة الاقتصادية. وفي سياق الأزمة يبدو من غير المحتمل إلى حد كبير أن يعود العالم إلى فكرة العولمة المفيدة للطرفين التي حددت العلاقات الدولية في مطلع القرن الحادي والعشرين.
“كيشور محبوباني” الدبلوماسي والأكاديمي السنغافوري، كتب “عولمة أكثر تتمحور حول الصين” بأن جائحة “كوفيد-١٩” سوف تتكفل بالانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة إلى العولمة التي تتمحور حول الصين. فمع فقدان الشعب الأمريكي ثقته بالعولمة والتجارة الدولية مع أو دون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ فإن الصين في المقابل وجدت أن العولمة كانت في المقابل سبيلها إلى الانتعاش الاقتصادي نتيجة المشاركة العالمية.
وفي الاتجاه المقابل فإن جي. جون أيكنبيري أستاذ السياسة والشؤون الدولية في جامعة “برينستون” يقرر أنه “سوف تخرج الديمقراطيات من قوقعتها”. فعلى المدى القصير ستعطي الأزمة الوقود لجميع المعسكرات المختلفة يميناً ويساراً في النقاش الغربي حول الاستراتيجية العليا، ولكن تجربة ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين شهدت تياراً معاكساً نحو الديمقراطية والاعتماد الدولي المتبادل، وبناء بنية تحتية عالمية للتعاون متعدد الأطراف، وهو ما تحقق بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
شانون أونيل نائب الرئيس والأستاذ الزائر عن أمريكا اللاتينية في مجلس الشؤون الخارجية الأمريكي، يأخذ الأزمة في اتجاه الآثار السلبية لسلاسل التوريد العالمية تحت عنوان “أرباح أقل، ولكن مزيد من الاستقرار”. لقد كسرت أزمة الكورونا العديد من هذه السلاسل وبات ضرورياً معالجتها بتغيير مصادر الإمداد التي قد تكون ربحيتها أقل ولكنها سوف تخلق إطاراً أكثر استقراراً في مواجهة الأزمات.
شيفنشانكار مينون الدبلوماسي الهندي ومستشار الأمن القومي السابق، وجد أن “الوباء يمكن أن تكون له أغراض مفيدة”: أولاً: ستغير جائحة الفيروس السياسات سواء داخل الدول أو فيما بينها. حيث تظهر التجربة أن السلطويين أو الشعبويين ليسوا أفضل في التعامل مع الوباء. والواقع أن الدول التي استجابت في وقت مبكر وبنجاح، مثل كوريا وتايوان، كانت ديمقراطية، وليست تلك التي يديرها قادة شعبويون أو سلطويون.
وثانياً: هذه ليست نهاية عالم مترابط بعد. “إن الوباء نفسه دليل على تكافلنا”. جوزيف ناي أستاذ العلاقات الدولية الأشهر في جامعة هارفارد، ركز على أن “القوة الأمريكية تحتاج إلى استراتيجية جديدة” نقطة البداية فيها هي أنه حتى لو سادت الولايات المتحدة كقوة عظمى، فإنها لا تستطيع حماية أمنها من خلال التصرف بمفردها.
جون ألين رئيس مؤسسة بروكينجز وجنرال أمريكي سابق في حلف الأطلنطي، فهو يعامل الأزمة كما يعاملها الجنرالات بعنوان “كتابة تاريخ كوفيد-١٩ سيكون من قبل المنتصرين” كما هو الحال في تاريخ الأزمات. ستقوم هذه الأزمة بتعديل هيكل القوة الدولية بطرق لا يمكننا أن نتخيلها. على المدى الطويل، من المرجح أن يقلل الوباء بشكل كبير من القدرة الإنتاجية للاقتصاد العالمي، خاصة إذا كانت الشركات قريبة وانفصل الأفراد عن القوة العاملة.
إن خطر التفكك هذا كبير بشكل خاص للدول النامية وغيرها التي لديها نسبة كبيرة من العمال المعرضين اقتصادياً. لوري جاريت صحفية حائزة على جائزة بوليتزر عن تغطية الأوبئة، ترى فيما بعد الأزمة “مرحلة درامية في الرأسمالية العالمية”، وبالنظر إلى حجم خسائر السوق المالية التي عانى منها العالم، فمن المرجح أن تخرج الشركات من هذا الوباء بلا ريب حول النموذج الذي تم إنتاجه في الوقت المناسب والإنتاج المنتشر عالمياً.
يمكن أن تكون النتيجة مرحلة جديدة دراماتيكية في الرأسمالية العالمية، حيث يتم تقريب سلاسل التوريد من المنزل للحماية من الاضطراب في المستقبل. قد يقلل ذلك من أرباح الشركات على المدى القريب ولكنه يجعل النظام بأكمله أكثر مرونة. ريتشارد هاس رئيس مجلس الشؤون الخارجية الأمريكي، وجد أن الأزمة سوف تؤدي إلى “المزيد من الدول الفاشلة” ويضع استنتاجاته على الوجه التالي: أتوقع أن تجد العديد من البلدان صعوبة في التعافي من الأزمة، مع ضعف الدولة أصبحت الدول الفاشلة سمة أكثر انتشاراً في العالم. من المرجح أن تسهم الأزمة في التدهور المستمر للعلاقات الصينية الأمريكية وإضعاف التكامل الأوروبي. على الجانب الإيجابي، يجب أن نرى بعض التعزيز المتواضع لإدارة الصحة العامة العالمية.
كوري شاك نائب المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وجدت معضلة الأزمة في “فشل الولايات المتحدة في اختبار القيادة”، فلن ينظر إلى الولايات المتحدة على أنها زعيم دولي بعد الآن، ولن ينظر إلى الولايات المتحدة على أنها رائدة دولية بسبب المصلحة الذاتية الضيقة لحكومتها وعدم الكفاءة الفادحة.
لقد فشلت واشنطن في اختبار القيادة، والعالم بات أسوأ حالاً. نيكولاس بيرنز دبلوماسي سابق وأستاذ الدبلوماسية والسياسة الدولية في جامعة هارفارد، رأى أنه “في كل بلد، نرى قوة الروح البشرية”، ورغم الأخطاء الفاحشة للصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتراجع مصداقية الحكومات وعدم كفاية التعاون الدولي، ومع ذلك، في كل بلد، هناك العديد من الأمثلة على قوة الروح الإنسانية، للأطباء والممرضات والقادة السياسيين والمواطنين العاديين الذين يظهرون المرونة والفاعلية والقيادة. وهذا يوفر الأمل في أن الرجال والنساء في جميع أنحاء العالم يمكن أن يسودوا استجابة لهذا التحدي الاستثنائي.
الأوبزرفر العربي