اتحاد الشغل يسترضي قيس سعيد بمبادرة مفخخة
تواترت تصريحات قياديين في الاتحاد العام التونسي للشغل عن مبادرة “الإنقاذ الوطني” التي تعدها المنظمة النقابية كحل سحري لحل أزمات البلاد. وتظهر التصريحات أن منتهى ما يريده هؤلاء القادة هو أن يقبل الرئيس قيس سعيد بعرضها عليه وتسلمها وأخذ صورة له وهو يتسلمها من أمين عام الاتحاد نورالدين الطبوبي.
بات هم الاتحاد الآن هو التفاتة رمزية من قيس سعيد من خلال اجتماع بالطبوبي وأخذ صورة مشتركة ليستثمرها قادة المنظمة في تأويلات شتى من بينها أن الأزمة الصامتة مع رأس هرم السلطة، والتي استمرت لأشهر، قد فرجت، وأن الاتحاد الذي تعود على الأضواء والمنابر التلفزيونية يوميا سيعود إلى شغل السياسة ولو من باب شكر الرئيس سعيد والإشادة به وبحكمته.
المهم هو إظهار أن الاتحاد لا يزال طرفا في المشهد، وأنه فاعل ويحمل أفكارا وبرامج وأن قلبه على تونس. وهذه فرصة مهمة لاستعادة ذاك البريق بعد أن انطفأ بسبب موقف رئيس الجمهورية الذي أغلق الباب أمام استعراضات الاتحاد الكلامية وصنعة تعدد التصريحات، التي لا يتقنها سوى الاتحاد، واحد يهدد صباحا الحكومة ووزراءها والثاني يشيد مساء برئيس الجمهورية. هذه اللعبة أنهاها قيس سعيد باعتماد الحكمة الشعبية “الباب اللي يجيك منه الريح سده واستريح”.
منذ أيام ظهر الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل سامي الطاهري، المكلف بالإعلام، ليقول إنّ “الحوار أساسي وهو القادر على تجنيب البلاد الاضطراب وحالة عدم الاستقرار”.
وعبّر الطاهري عن أمله في قبول مبادرة الرباعي والتوجّه نحو الحوار مع الحكومة، وفي غياب ذلك سيتم البحث عن أشكال أخرى لتجميع أكثر ما يمكن من الأطراف ومن المنظّمات والأحزاب حول المبادرة.
هذا التصريح يحاول فيه الطاهري ألا ينزل أكثر في الخطاب لإظهار الاتحاد وكأنه يناشد الرئيس سعيد بالقبول. لكن المفردات المستعملة كانت منزوعة من الحدة التي عرف بها الحديث عن السلطة في السابق. بات منتهي ما يريده الاتحاد هو قبول مبادرته من الرئيس سعيد والعودة إلى حوار متوقف منذ أسابيع مع الحكومة. لم تكن المنظمة تعتقد أن تأتي سلطة بعد الثورة، التي تضاعف فيها دور الاتحاد ونفوذه واشتدت قبضته، لتغلق الباب أمامه.
إن الهدوء في التصريحات، والأمل في أن تقبل السلطة مبادرة الاتحاد، والكف عن لغة التهديد والوعيد التي عرفت بها مواقف المنظمة، كلها عناصر هادفة إلى كسر العزلة بعد غياب الاهتمام الرسمي بالمنظمة، التي دعمت إجراءات 25 يوليو 2021 وما تبعها بما فيها حل البرلمان، بفكرة أن الرئيس سعيد كان لحظتها في حالة ضعف وأنه سيسعد بوجود الاتحاد في صفه ويكافئه بأن يشاوره في الكبيرة والصغيرة ويعترف كما اعترف السابقون بأن “الاتحاد أقوى قوة في البلاد”.
وحين اكتشفت جماعة الاتحاد أن قيس سعيد مختلف عمن سبقوه، ويريد لمن يقف في صفه أن يلزم حدوده وأن يتحرك في المربع الذي يعطيه له القانون والعرف بدأت تغير من أسلوبها من الدعم إلى النقد إلى التلويح بأساليب المرحلة الماضية، ومن بينها تقديم الاتحاد لنفسه حكيما يفكر للسلطة ويحمل لها خرائط الطرق التي تنقذ البلاد. وكأن السلطة الجديدة لا تفكر أو لا تمتلك بدائل وأنها دون الاعتماد عليه ستسقط في الفوضى والإرباك.
وكانت قيادة الاتحاد تعتقد أنه سيكون لها دور أساسي في صياغة خارطة الطريق، كما جرت العادة خلال السنوات الماضية، حيث مثّل الاتحاد طرفا رئيسيا في صياغة التوافقات السياسية وإدارة عملية الحكم في البلاد، لكن قيس سعيد كان له موقف آخر، إذ عمد إلى تحييد المنظمة النقابية.
ورغم أن الرئيس أعلن مرارا أنه يرفض خرائط الطرق التي يعرضها الاتحاد، لكن المنظمة التي لازمت الصمت في الفترة الأخيرة وتجنبت أي تصعيد أو إضرابات قد تجر السلطة لرد فعل قوي ضدها، لا تزال تأمل في أن تعيد علاقتها مع الرئيس سعيد، وأن تحافظ على الحد الأدنى من ماء الوجه، بأن تتقدم في صورة من يحمل مبادرة وليس من يدخل بيت الطاعة.
مع الإشارة إلى التأخير المتعمد لعرض المبادرة إلى حين تهدئة التوتر مع الرئيس، فالإعلان عنها دون تفاعل منه يعني أنها ولدت ميتة. ولذلك رد الاتحاد على التساؤلات بشأن تأخر المبادرة بالقول إن اللجان تدرسها، ثم تعرضها على الجهات لتناقشها وتقترح تعديلات ثم تعيدها للصياغة وربما تعيدها مرة أخرى للنقاش والتصويب، وهكذا إلى حين يحين الموعد لعرضها على الرئيس.
تعرف المنظمة أن الإعلان عن جاهزية المبادرة من دون أي تفاعل من قيس سعيد معها سيعني المس من صورة الاتحاد ومبادراته في المستقبل. وحتى لو كانت المسودة جاهزة فستظل غير مكتملة إلى حين تسليمها للرئيس سعيد.
هذا من حيث التفاعل مع المبادرة، ولكن لماذا تسميتها بمبادرة الإنقاذ الوطني وممن؟ وكيف يمكن توقع قبولها بمحمول سلبي مثل هذا؟
المبادرة صيغت في وقت كان الاتحاد يسعى لفرض نفسه “حكما” بين قيس سعيد وخصومه، أي في الأشهر الأولى من إجراءات 2021، حين كانت المعارضة لا تزال تتظاهر وتطلق التصريحات والتهديدات. فهل ما زال الوقت في صالحها؟
ولو حذفنا الجانب السياسي من هذه المبادرة، أي الوساطة السياسية التي تمكن الاتحاد من أن يكون زعيما للحوار الوطني كما كان في 2013، وأن يكون صاحب فضل على السابقين بأن يخرجهم “سالمين غانمين” من الورطة، ويمهد للاحقين طريق الحكم ضمن “توافق وطني”، ماذا سيبقى منها؟
الوساطة السياسية، أو “الإنقاذ السياسي”، لم يعد لهما مبرر بعد أن مضت السلطة إلى خيار فتح الملفات واعتقال الكثير من الخصوم وفق ملفات تقول إنها على صلة بالفساد و”التآمر على أمن الدولة” فيما يقول معارضوها إنها ملفات فارغة.
فماذا بقي من المبادرة؟ وما جدواها؟ وهل يملك الاتحاد مقاربة اقتصادية واجتماعية تكون بمثابة خارطة طريق للخروج من الأزمة الراهنة؟ وأي مشروعية تسمح له بأن يطالب باتباع خارطته ويفرضها على سلطة تقول إن لديها مقاربة.
محور مقاربة الاتحاد يقوم على معارضة أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وخاصة معارضة إصلاح المؤسسات الحكومية الكبرى التي له فيها نفوذ كبير، مع قليل من البهارات الكلامية عن رفض الدعم واستهداف الفئات الفقيرة والهشة والمس من قدرات الطبقة المتوسطة، وهي أرضية يقف عليها قيس سعيد نفسه ويعلنها باستمرار ويعتبرها خطوطا حمراء.
وإذا كان مضمون المبادرة معروفا في مجمله ويضبط توجهات معلومة، فما الذي سيدفع قيس سعيد إلى قبولها أو ما الذي يجعل الاتحاد يصر عليها. لا شيء سوى إثبات الوجود.
لكن مع ذلك من الصعب قبولها من قيس سعيد، ليس فقط لما تحمله من محاولة فرض خارطة طريق على سلطة لديها خبراء ووزراء ولجان تشتغل صباح مساء لمقاربة الأزمة وتأتي جهة لتزيح ما جمعوا وتلقي إليهم بمقاربة جاهزة لا تعرف واقع المؤسسات ولا الحكومة. ولكن لأن أساسها يقوم على مصادرة مفادها أن قيس سعيد لا يحمل مشروعا ويمكن أن يقود البلاد إلى مصير مجهول، والاتحاد هو المنقذ. فكيف يريد الاتحاد لفت نظر قيس سعيد بمبادرة صيغت للتشكيك فيه.
وهناك معطى آخر مهم، وهو أن الاتحاد لم يعد قادرا على الضغط وعلى التصعيد، حتى لو تمسكت قيادته بذلك لأن التيار الغالب داخله يتجه نحو التهدئة والتصالح مع الحكومة، وهو ما كشف عنه اتفاق نقابة الثانوي الذي لا يمكن وصفه سوى بأنه قبول بتهدئة دون اشتراطات وصادر عن أهم النقابات وأكثرها وزنا وتأثيرا.
هناك حراك داخلي شديد وسط توجه لدى القيادات النقابية المحلية والوسطى إلى التهدئة وإرجاء المطالب إلى حين استقرار البلاد والخروج من نفق أزمة الأسعار الملتهبة، وهو أمر لا تقدر القيادة الحالية للمنظمة أن تقف بوجهه، فأي تصعيد منها قد يقود إلى خلافات وانشقاقات وانسحابات، وهو ما سيدفعها إلى الانكفاء والبحث عن مصالحة مع السلطة لإنقاذها من الداخل وتجنب صدام ليس في صالحها.