الأزمة الاقتصادية في تونس: ورطة النخب الثورية في صناعة البدائل
مختار الدبابي
بعد عشر سنوات من اللعب بالسلطة، وصراع الكراسي، وصراخ الانتقال الديمقراطي، تجد تونس نفسها في وضع اقتصادي صعب، فهي تسعى للاقتراض ولا أحد يريد إقراضها ولا مساعدتها لأنها لم توف بتعهدات سابقة، فضلا عن أن وضعها الاقتصادي لا يسمح لها بأي التزام.
صندوق النقد الدولي قال إنه لا يمكنه أن يدفع قرضا بقيمة 4 مليارات دولار دون التزام رسمي بالإصلاحات التي يطالب بها، وعلى رأسها موضوع الدعم، وإصلاح المؤسسات الحكومية الفاشلة.
الدول الصديقة التي هرول لها المسؤولون اكتفت بوعود الدعم، لكنها لا تستطيع أن تمر إلى تنفيذ تعهداتها بسبب غموض الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد، فلا أحد يضمن أن حكومة هشام المشيشي يمكن أن تستمر لأشهر قادمة، وحتى لو سقطت هذه الحكومة فليس هناك مؤشرات على تشكيل حكومة توافق واسع يمكن أن تنهض بمهمّة الإصلاحات التي يطالب بها المانحون.
ليس هناك جهة سياسية رسمية أو شعبية قادرة على تبني خيار الإصلاحات بشكل علني، لا من أحزاب الحكومة ولا من المعارضة، لسبب واضح أن هذه الأحزاب هي أحزاب أيديولوجية بنت صورتها على المواقف الراديكالية التي ارتبطت بها لعقود حين كانت في المعارضة زمن الشعارات الكبرى التي تنظر إلى كل شيء على أنه مؤامرة وارتهان للإمبريالية.
الأحزاب الإسلامية ذاتها، ذات الطبيعة المرنة والمتلوّنة حسب الحاجة والظرف لا تقدر على أن تعلن دعمها لإصلاحات صندوق النقد الدولي وشروطه، بالرغم من أنها تروّج في لقاءاتها مع المسؤولين الغربيين لفكرة أنها تيار ليبرالي لا مشاكل له مع الإصلاحات بما في ذلك خطط التقشف القاسي أو إصلاح مؤسسات حكومية نخرها الفساد والبيروقراطية.
مع الإشارة إلى أن وعي الإسلام السياسي في شمال أفريقيا تشكل تحت تأثير الخطاب اليساري في الجامعة خلال ثمانينات القرن الماضي، ويمكن وصفه بأنه خطاب يساري بجبة إسلامية، من حيث تبني النقابات والتقسيم الطبقي ومفهوم الثورة كتغيير شامل بدل التغيير التدريجي الذي يروّج له الإسلاميون في الشرق والخليج من خلال مفهوم الإصلاح.
ولا يقدر الإسلاميون على الترويج للتفاعل مع إصلاحات صندوق النقد الدولي حتى بين جمهورهم الخاص الذي يدافع عن فكرة حفاظ حركة النهضة على هويتها الأولى كحركة احتجاجية تعارض كل شيء، من منظومة قائمة ومن شبكة علاقات خارجية لتونس، بالرغم من كونها حزبا حاكما يسوق نفسه كبديل براغماتي، يحاول أن يقنع دوائر الدولة العميقة في تونس والدوائر الخارجية بأنه حزب تحت الطلب، المهم البقاء في السلطة.
وشعور حركة النهضة بهذه الورطة دفعها إلى تخصيص ندوة عن الأزمة الاقتصادية السبت الماضي في الذكرى الأربعين لتأسيسها، وربما لأول مرة يظهر الإسلاميون اهتماما بهذا الحجم بالقضية الاقتصادية، لكن الخطاب الذي قدم في الندوة لم يكن أكثر من إطلاق صيحات فزع دون تقديم حلول أو مشاريع واضحة.
وجاءت كلمة راشد الغنوشي رئيس الحركة عاكسة لأزمة غياب البدائل، إذ لم تجمع سوى شعارات مثل “اقتصاد معقول ومتوازن بين الأجور والإنتاج” و”لا أحد بإمكانه إخراج الأموال من الحائط”، ومحاربة الفساد. لكن اللافت فيها هو تحميل الرئيس قيس سعيد مسؤولية غياب الاستثمارات الخارجية.
وحذّر الغنوشي من أن “تصريحات المسؤولين في تونس خاصة عند تواجدهم في الخارج لا ينبغي أن تكون متناقضة ويجب أن تعطي صورة ترغب في الاستثمار مع تونس والتعامل معها وإقراضها”. كما عاد إلى موضوع “الانقلاب” والتحريض عليه كعامل إضافي، ما يظهر قصورا في فهم الأزمة الاقتصادية في جوهرها وأن التوظيف السياسي من هذا الطرف أو ذلك لن يحلها.
والموقف الأكثر إثارة وغرابة هو مطالبة التونسيين بالدعم الخارجي، ولكن من دون أي التزامات سياسية أو مالية. ويمكن الإشارة إلى أمثلة على هذا التناقض، فاتحاد العمال (الاتحاد العام التونسي للشغل) يريد أن تستمر الحكومات في ضخ الأموال اللازمة لتسيير الشركات الكبرى التي تعود للدولة، وله فيها ثقل كبير، دون أي تغييرات على تركيبتها.
صحيح أن رفض المس بهذه المؤسسات يعود إلى فكرة أيديولوجية تعتبر أن الدولة هي الموجه والحامي للمؤسسات والأفراد والمسؤول عن التمويل، لكن المشكلة أنها شركات يسيطر عليها الفساد وغارقة في الديون، ولا يمكن مطالبة الدولة بالاستمرار في ضخ الأموال لفائدتها دون إصلاحها.
والإصلاح هنا يعني تتبع مسار الفساد والتخفيف من الكلفة المالية، وعلى رأس هذه الأولويات تقليص عدد الموظفين والتحكم في التوظيف ولجم آلية الزيادات والعلاوات التي باتت تلقي بأعباء إضافية على البلاد، خاصة أن جزءا كبيرا من القروض التي تحصل عليها تونس تذهب للرواتب ومصاريف المؤسسات الرسمية.
واعتمادا على دعم اتحاد الشغل ترفض كل المؤسسات الحكومية المس بامتيازاتها، خاصة في الإدارات التي تنفق بسخاء على شراء السيارات وتكاليف المحروقات والعلاوات التي توجه بصفة خاصة لكبار المسؤولين، فضلا عن إضرابات واحتجاجات مستمرة للقطاعات الحيوية التي تفرض على الحكومات الضعيفة إقرار زيادات جديدة في الرواتب والعلاوات، وبعضها نجح في تحصيل امتياز الحصول على نسبب من عائدات الضرائب للدولة.
ومع كل هذا الإنفاق السخي الذي يذهب في جزئه الأكبر لاسترضاء القطاع الحكومي، لا تجد الحكومات المتعاقبة من حل سوى زيادة الضرائب والرفع في أسعار المواد الأساسية لتحصيل موارد جديدة، مع التوقف عن تنفيذ مشاريع البنية التحتية من جسور وطرقات.
وظهر العجز الحكومي عن توفير الموارد المالية بشكل جلي في موضوع لقاحات كورونا، حيث باتت الدولة الأقل حصولا على التطعيمات في محيطها الإقليمي.
وبالرغم من المخاطر التي يمكن أن يقود إليها العجز عن توفير التمويلات اللازمة للميزانية، والإيفاء بالتعهدات الخاصة بتسديد الديون، فإن التعاطي مع الأزمة بقي كما هو ضمن مسار المناكفة السياسية، وخاصة محاولة توظيف هذه المعضلة لتحصيل مكاسب حزبية، وهو ما عكسته بيانات أحزاب المعارضة (حركة الشعب، التيار الديمقراطي) مع أن هذه الأحزاب كان لها دور في دعم رئيس الحكومة الحالي وتمكين حكومة التكنوقراط من الحصول على ثقة البرلمان.
ويعزى هذا العجز عن إدارة الدولة والاحتفاظ بالتوازن الذي يتيح لها الحفاظ على استمرار المؤسسات وفي نفس الوقت تمكين الموظفين من المزايا التي يحصلون عليها إلى ضبابية رؤى الأحزاب الحاكمة منذ 2011 عن الدولة وكيفية تسيير دواليبها. وبدلا من البحث عن حلول في الداخل هرولوا إلى الخارج بحثا عن الدعم، دون أن يعرفوا أن الخارج، ومهما كانت صداقته لن يجازف بضخ اعتمادات كبيرة في دولة يقودها هواة.
وهرول الإسلاميون إلى حلفائهم، وتلقوا وعودا، وفق ما أعلنوا بأنفسهم، لكن مؤشرات كثيرة تقول إن تلك الوعود لن تتحقق بسهولة، من ذلك وعود الليبيين بضخ أموال لفائدة الدولة التونسية، لكنهم في المقابل طلبوا رفع التجميد عن الأموال الليبية المجمّدة في تونس، وهي تعود إلى رجالات الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي قبل ثورة فبراير وبعدها.
وبدلا من أن تحصل تونس على الدعم الذي تطلبه باتت مطالبة بتوفير أموال مجمدة تفوق ما تطالب به، وكأنك يا بوزيد ما غزيت.
والأمر نفسه بالنسبة إلى القطريين الذين يتكتمون إلى الآن عما يمكن أن يقدموه بالرغم من تصريحات قيادات في حركة النهضة عن وعود قطرية كبرى. ومن الواضح أن الدوحة لا تثق في الطبقة السياسية الحاكمة، وإن كان الحزب الأهم في حكومة المشيشي محسوب عليها، فهي في النهاية دولة لها مصالح وتريد ضمانات مقابل الأموال التي ستضخها.
الرئيس سعيد أطلق خلال زيارته إلى بروكسل مبادرة تدعو إلى تحويل الديون المستحقة على تونس لدى الاتحاد الأوروبي إلى استثمارات، وهي مبادرة حالمة كان يمكن توقع الاستجابة لها في بداية ثورة 2011 حين كان “الربيع العربي” يجد حماسا أوروبيا، لكن الوضع الآن مختلف فـ”الربيع” لم يعد يغري بالدعم وصار مصدر قلق مع تصديره لعناصر متشددة يقف بعضها وراء عمليات دهس وقتل في عواصم أوروبية مختلفة.
كما أن الأوروبيين، الذين يعرفون بسعة الصدر، لم يعودوا يثقون في جار جنوبي تحكمه الفوضى السياسية، ولا يعرفون بالضبط على من يراهنون على رئيس جمهورية يرفع لواء تغيير جذري لا يستطيع التقدم فيه قيد أنملة فيضطر إلى تعطيل القوانين والمؤسسات، أم على حكومة يقودها حزب إسلامي يسيطر الغموض على ارتباطاته وفي وضع تعيش فيه الدول الأوروبية على وقع الخوف من صعود الإسلاموية بين المهاجرين وما قد تخلقه من أرضية ملائمة لصناعة موجة جديدة من العمليات الإرهابية.
والخلاصة أن أوروبا التي تعيش اقتصادياتها على وقع ضغوط كورونا لم يعد في الوارد أن تعطي بلا مقابل، والأمر نفسه لصندوق النقد الدولي وبقية المؤسسات المالية المانحة، والأصدقاء الخليجيون بدورهم غير متحمّسين. لم يبق من خيار سوى البحث عن طوق النجاة من الداخل من خلال خطة تقشف قصوى وقرارات بتجميد زيادة الرواتب والعلاوات لإظهار الرغبة في الإصلاح وطمأنة المانحين، وهذا يتطلب هدنة سياسية واجتماعية يتم فيها تأجيل الخلافات والحسابات والتركيز على أولوية وحيدة هي إنقاذ البلاد.
من الممكن أن يستمر الجميع في هوايتهم القائمة على الصراعات والمزايدات، وهذا أمر وارد، لكن لا أحد سيلتفت إليهم، وسقف المناورة محدود لأن الدولة التي تعجز عن الالتزام بتعهداتها ستترك لقدرها مثلما هو الأمر مع لبنان.