الأمن وحده لا يكفي لدحر الإرهابيين في سيناء
محمد أبو الفضل
في كل عملية إرهابية تحدث في سيناء المصرية يتم إلقاء المسؤولية على أجهزة الأمن التي تتعامل منذ سنوات مع تكفيريين لا يزالون يقومون باستهداف عناصر الجيش والشرطة في هذه المنطقة، ما جعل البعض يعتقد أن هناك خللا استخباريا يمكنهم من تنفيذ عملياتهم من وقت إلى آخر.
تشير بعض التصرفات الأمنية إلى استمرار سياسة رد الفعل في التعامل مع التكفيريين بما يمنحهم تفوقا نسبيا جرّاء الاستفادة من عنصر المفاجأة، كما يظهرهم نقل عملياتهم من بقعة إلى أخرى مجاورة بأنهم يمتلكون قوة بشرية وتسليحية لن تنضب وقادرة على امتصاص الصدمات التي تعرضوا لها طوال سنوات.
يستطيع دارسو الجغرافيا السياسية لسيناء بسهولة فهم أسباب عدم السيطرة التامة على العمليات الإرهابية حتى الآن، والتي لا تخلو منها دول متقدمة، فالبيئة التي ينشط فيها الإرهابيون، وهي قبلية بصورة أساسية، فرّخت أعدادا تجعل قوتهم تحافظ على الحد الأدنى لها والمزعج أيضا، كلما أوشكت على النضوب تجد من يمدهم بذخيرة جديدة.
تبدو المسألة معقدة وتلعب فيها مظالم تاريخية ممتدة دورا مهمّا حيث جرى تهميش وسط وشمال سيناء في عهود سابقة والتركيز على جنوبها كمنطقة سياحية ما أوجد ضغائن اجتماعية أسهمت في زيادة استقطاب الإرهابيين لعناصر محلية، ناهيك عن التفاوت الاقتصادي الذي جعل البعض يعمل في تجارة المخدرات والأسلحة وتهريب البشر ورواج الهجرة غير الشرعية، وهؤلاء ربطتهم علاقة قوية بمتطرفين.
تتمتع سيناء بجغرافيا فريدة كانت أحد أسباب ميزتها ونكبتها، وتركيز التكفيريين عليها، فهي تطل على البحرين الأحمر من الجنوب والمتوسط من الشمال، وتطل على خليجي العقبة من الشرق والسويس من الغرب، وعلى مقربة من المجرى الحيوي قناة السويس، كما أن التصاقها الحدودي بكل من إسرائيل وقطاع غزة جعلها بيئة جيدة لجذب الإرهابيين إليها.
منذ سقوط نظام الإخوان في مصر قبل حوالي ثمانية أعوام انتقلت الصورة الذهنية عن سيناء من ساحة معارك حقيقية، أو محتملة، مع إسرائيل، إلى ساحة معارك مع تكفيريين ينتمون لتنظيمات مختلفة وجدوا فيها أجواء خصبة لممارسة العنف لإرهاق الدولة المصرية أملا في إجبارها على تخفيف قبضتها على الإخوان والجماعات المتطرفة التي تدور في فلكها.
بين هاتين الصورتين جرت مياه كثيرة ومرت فترات صعود وهبوط متباينة حتى تم رسم صورة ثالثة لا تقل أهمية، وتتعلق بتصدير العنف من غزة إلى سيناء عبر سلسلة طويلة من الأنفاق ربطت بين الجانبين اختلطت فيها التجارة بالإرهاب وتحولت سيناء إلى مأوى لأنواع عدة من المتشددين دخلوها من فوق الأرض وتحتها.
استثمرت بعض أجهزة المخابرات المتحالفة مع تكفيريين التي تجيد توظيفهم أمنيا وسياسيا ارتفاع مستوى الرخاوة السائدة في سيناء حتى تحولت إلى منغّص مؤلم لمصر كان من الضروري التعامل معه بقسوة لأن التهاون يؤدي إلى صعوبة السيطرة على منطقة تمثل أهمية استراتيجية بعد أن تزايدت فيها أعداد الإرهابيين بصورة كبيرة.
كانت ذروة تجميعهم قبيل فترة حكم الإخوان وفي أثنائها، وهي الفترة التي انشغلت خلالها قوات الجيش والشرطة بتطورات الأوضاع السياسية في الشارع ومنع انفلات مظاهراته عقب النجاح في عزل الجماعة عن الحكم وزيادة وتيرة العنف الذي أدخل سيناء في حلقة أشد دموية فرضت على النظام المصري التعامل معها بطريقة مغايرة.
تستغرق عملية تجفيف المنابع وقتا حيث تراكمت الأخطاء وتشابكت أسبابها، فالتعاطي الأمني وحده لا يكفي لتوفير الاستقرار، لذلك شملت العملية الشاملة المعروفة بـ“سيناء 2018” جملة من الممارسات المكمّلة تخص البيئة التي شكلت ملاذا للتكفيريين والعمل على تقويض العناصر التي أفضت إلى احتضان بعضهم.
في مقدمة الممارسات الالتفات عمليا إلى تغيير البيئة بشكل يقطع كل السبل على من لجأوا إليها كملاذ آمن قد لا تقترب منه قوات الأمن خوفا من مواجهتها حربا ضارية، غير أن التطورات أثبتت العكس فقد تحمل الجيش المواجهة وحقق نجاحات كبيرة، واخترق الحصون القوية المتمثلة في تنظيف جبل الحلال بوسط سيناء من الإرهابيين.
تجلّت معالم التوجهات الجديدة في شقين، أحدهما خارجي وركز على سد المنافذ البرية والبحرية ومعالجة قصة الأنفاق المرهقة والمتشعبة التي شيّدت وتسلل منها إرهابيون وأسلحتهم، والتوصل إلى تفاهمات أمنية مع حركة حماس الفلسطينية تم بموجبها تحمل جزء معتبر من عملية منع تهريب البشر والأسلحة القادمة من غزة.
والشق الآخر داخلي وقُصد منه تخفيف المعاناة عن أهالي سيناء الذين تعاطفوا قسرا أو قهرا مع التكفيريين، وجرى تنفيذ مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية كي تنتهي عزلة الأهالي عن الجزء الغربي من الدولة المصرية، فقد لعبت جغرافية سيناء وتاريخها كساحة للحروب دورا في عدم الاهتمام بسكانها بدرجة كافية.
قلّم الاقتراب من معالجة أوجه القصور، بالتوازي مع التحركات الأمنية الحاسمة، أظافر الكثير من التنظيمات التكفيرية التي يكاد وجودها يقتصر على عمليات متباعدة زمنيا مقارنة بما كانت عليه قبل ثلاثة أعوام، لكنها تشير في مجملها إلى أن المتطرفين لا يزالون قادرين على الفعل.
تنطوي العملية الإرهابية التي وقعت قبل أيام في شمال سيناء على إشارة توحي بأن هؤلاء لم يتم القضاء عليهم، وهو هدف دعائي يعملون على تكريسه لتسويق فكرة أن قبضة الأمن المصري رخوة ولن تتمكن من قطع دابرهم والفترة المقبلة يمكن أن تشهد عمليات جديدة للتشكيك في إجراءات الحكومة التي اتخذتها في سيناء.
تريد العمليات النوعية التي تُسقط ضحايا من رجال الجيش قطع الطريق على محاولات زرع سيناء بالحجر والبشر وفق خطة ترمي إلى تعميرها ونقل نحو خمسة مليون مصري من الوادي وتوطينهم هناك وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم.
تحمل الخطة ثلاثة أغراض رئيسية، الأول: تكفّل المشروعات التنموية بوقف انضمام بعض السكان إلى صفوف التكفيريين، والثاني: كبح أي عدوان عسكري في المستقبل من جانب إسرائيل التي اعتمدت في احتلالها لسيناء سابقا على قلة سكانها، والثالث: إنهاء إشكالية الفراغ التي أدت إلى تسويق سيناريو قضم مساحة من شمال سيناء وضمها إلى غزة كتمهيد لإقامة دولة فلسطينية.
قادت شواغل كثيرة إلى تركيز الحكومة المصرية على سيناء، ومكافحة الإرهاب تبدو الجزء الظاهر فيها بينما هناك أجزاء غاطسة تتكفل الأيام بالكشف عنها تدريجيا، وهو ما يؤكد أن مهمة الجيش المصري في سيناء تتجاوز حدود منع تحويلها إلى ملاذ للتكفيريين، ولذلك فالأمن وحده لن يكفي لدحر الإرهابيين في سيناء بألوانهم المختلفة.