التونسيون يغيّرون القيادات وليس القطارات
حكيم مرزوقي
مرة أخرى يصنع الشارع التونسي دراماه التي تتسارع أحداثها وتتصاعد بطريقة ملفتة و”سلسة”، خصوصا أن كل أسباب نجاحها متوفرة ثم أن عناصر هذه الدراما شهية المزاج ومفتوحة على كل احتمالات الارتجال في بلاد تشبه المسرح الكبير.
قوى شبابية مسيسة، لكنها غير متحزبة تضرب لها في الشارع موعدا متزامنا مع ذكرى إعلان الجمهورية، والغاية إسقاط الحكومة وحل البرلمان. بعد ساعات قليلة، رئيس الدولة الخبير في القانون الدستوري يستجيب لمطالبهم ويعلن بصوته الجهوري، شكسبيري الأداء، تجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة وتولي السلطة التنفيذية بنفسه استنادا إلى الفصل 80 من دستور 2014.
تهب الجماهير التي كانت غاضبة في النهار إلى الشوارع والساحات ليلا، مستبشرة بالقرار ومحتفلة بالحدث فينزل الرئيس بنفسه إلى الشارع ليشاركها احتفالاتها، رغم الحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا التي كشرت عن أنيابها وأصبحت تحصد المئات كل يوم، والتي كانت بدورها أحد أسباب الاحتجاجات.
عند ساعات الفجر الأولى يهرع رئيس المجلس النيابي إلى مقر البرلمان للاعتصام أمامه في حركة احتجاجية فيجده محاطا بالجيش ويُمنع من دخوله ليدلي بتصريح يؤكد فيه أن ما جرى هو انقلاب على الشرعية ويدعو مناصريه للخروج إلى الشارع.
عند بزوغ شمس الصباح تعلن مصادر صحافية انقطاع الاتصال برئيس الحكومة هشام المشيشي الذي تم استدعاؤه مساء الأحد لحضور اجتماع في قصر الرئاسة بقرطاج وترجح أنه يخضع للاحتجاز من قبل قوات الجيش. وجدوه لاحقا في بيته. يبدو أن الإعلام غير خبير في البحث والاستقصاء.
أنباء تتحدث عن بداية صدامات وتراشق بالاتهامات والحجارة بين جماهير عريضة من المحتجين أنصار الرئيس قيس سعيد من جهة، وبين إسلاميين ومساندين لرئيس البرلمان راشد الغنوشي من جهة ثانية.
والأزمة التي انفرجت في نظر القسم الأكبر من التونسيين قد تهدد بأزمة أو أزمات داخلية متفرقة تتمثل في مواجهات مع الإسلاميين المعروفين بمناوراتهم وعنادهم وعدم استسلامهم السهل كما هو الحال في مصر عقب الإطاحة بحكمهم في يوليو 2013. يبدو أن شهر يوليو هو كلمة السر في الإطاحة بتنظيم الإخوان، ليس في مصر فقط بل في تونس أيضا، حيث تحول من مجرد شهر ضمن شهور السنة إلى كابوس يؤرق التنظيم في معاقله الهشة كما يقول كاتب مصري، معقبا بتفاخر وزهو أن الحدث ” تكرر على بعد 2234 كيلومترا بين المحروسة والخضراء”.
هذه هي دراما الشارع التونسي إلى حد كتابة هذه السطور، والمفاجآت القادمة لن تكون ذات سوية دراماتيكية على الأرجح، ذلك أن التونسيين في أمزجتهم السياسية والجماهيرية ميالون إلى “القصص القصيرة والحاسمة”، على عكس شعوب المشرق العربي الميالة إلى “نظام الأجزاء” المشوب ببعض الإطالة والتكرار، إذ أن غالب التحولات في تاريخ تونس الحديث لم تستغرق بعض الساعات كما هو الحال عند إعلان الحبيب بورقيبة الإطاحة بالملكية لصالح الجمهورية غداة الاستقلال في 25 يوليو 1957.
وكذلك فعل الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي حين أعلن تنحية بورقيبة في 7 نوفمبر 1987. وظلت هذه السوية في الإنجاز ميزة توصف بها التحولات السياسية في تونس أي طول الانتظار الذي يعقبه الحسم السريع، كما هو الحال في ثورة 14 يناير 2011.
التونسيون جربوا الأحزاب ثم كفروا بها، هذا ما حصل فعلا إذا رصدنا التحولات الهائلة في الشخصية التونسية طيلة السنوات العشر الأخيرة، إذ صاروا {ملولين} ولا يلدغون من جحر واحد إلا مرة واحدة
تونس ما بعد 25 يوليو، إذن، ليست تونس ما قبل هذا التاريخ الذي اكتسى بعدا رمزيا منذ أن اتخذه الزعيم الحبيب بورقيبة يوما لإعلان تونس جمهورية بعد أن كانت مملكة يحكمها البايات ذوو الأصول العثمانية.
الأحد 25 يوليو 2021 سيبقى يوما تاريخيا في ذاكرة التونسيين الذين خرجوا إلى الشارع نساء ورجالا تحت لهيب شمس حارقة، حاولوا اقتحام مقر البرلمان وطالبوا برحيل رئيسه راشد الغنوشي وجماعته وحملوه مسؤولية ما آلت إليه البلاد من عجز وفساد، دون أن ينسوا شريكه في الوصول إلى هذا المشهد المأساوي القاتم رئيس الحكومة هشام المشيشي، والذي كانت مواقع التواصل الاجتماعي تتبادل في نفس اليوم نشر صوره في أحد الفنادق الفخمة على شاطئ البحر، غير آبه بما وصلت إليه بلاده من انهيار شامل على المستويات الصحية والاجتماعية والسياسية.
الحقيقة التي لا يمكن أن تتجاهلها وسائل الإعلام المحلية والأجنبية في تونس هي أن التونسيين يتبادلون عبارات التهنئة وقد أضافوا إليها ميدالية أولمبياد طوكيو الذهبية في شارع الحبيب بورقيبة ذي الرمزية الكبيرة، ويرفع بعضهم الأنخاب في المقاهي والحانات وقد تناسوا التباعد الاجتماعي وسط الكارثة الوبائية. وهذا تصعيد درامي آخر يصبغ الحياة الاجتماعية في تونس، فتقفز في ذهنك مقولة لأحد الزوار الوافدين إلى البلاد “لا تستغرب شيئا.. إنك في تونس”.
مرة أخرى تنسحب الأحزاب السياسية التونسية لصالح قوى شبابية ومدنية تبدو خفية وشبه غائبة عن المشهد، لكنها تحضر مرة واحدة وفي هبّة رجل واحد كما هو الأمر في انتخابات 2019 التي حملت قيس سعيد إلى قصر قرطاج الرئاسي وتوجته رئيسا بأغلبية انتخابية أمام ذهول خصوم سياسيين وأمناء أحزاب كنا نظنها وازنة، وفي غياب المال السياسي والحملة الدعائية المنسجمة مع هذا الإنجاز المفاجئ.
أغلب الاعتقاد في نظر مراقبين سياسيين أن أولئك الشباب الذين رافقوا حملة قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية وناصروه على مواقع التواصل الاجتماعي، رغم افتقاره إلى برنامج حزبي واضح، هم الذين استجاب لهم الرئيس هذه المرة، وكأنه يكافئهم على مساندتهم له ويرد لهم الجميل.
التونسيون جربوا الأحزاب ثم كفروا بها مرة واحدة وإلى الأبد. هذا ما حصل فعلا إذا رصدنا التحولات الهائلة في الشخصية التونسية طيلة السنوات العشر الأخيرة، إذ صاروا “ملولين” كثيرا، ولا يلدغون من جحر واحد إلا مرة واحدة.
والتونسيون لم يعودوا ذلك الشعب العاطفي كما هو مسوق في نظر البعض. لقد أصبحوا يفكرون برؤوس باردة رغم عواطفهم الجياشة. وهذه المرة وثقوا بقيس سعيد لأنه لم يخدعهم كما فعل الغنوشي والمشيشي وغيرهما ممن أشبعوا الناس وعودا ولم يجنوا من كلامهم غير المزيد من البؤس والخصاصة.
هل يُخشى على الديمقراطية الناشئة بعد ما حدث؟ الجواب حتما لا، ذلك أن القطار قد أخذ سكته ولا يحتاج سوى قيادة مسؤولة، سيغيرها الشعب في وقت سريع ثم يتابع القطار سيره وقد عرف طريقه جيدا.