الحرب التركية على الإرهاب
بهاء العوام
عندما يقول الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ، إن تركيا هي أكثر دولة تتعرض لهجمات إرهابية بين دول الحلف، فهذا لا يعني فقط قبولا غربيا مبطنا بعدوانها السافر على مناطق شرق الفرات في الشمال السوري، وإنما أيضا تفويضا لها بقيادة حرب التحالف الدولي على الإرهاب هناك.
بعد انسحاب القوات الأميركية من سوريا، وبقاء بعض الجنود لسرقة النفط أو حمايته على حد فهم دونالد ترامب للمسألة، أصبحت الحرب على داعش والإرهاب في الشمال شأنا تركيا روسيا. لتركيا اليد الطولى طبعا لأنها أدرى بتلك المناطق، ولها مرتزقتها وجيشها الرابض على الحدود الجنوبية لحلف الأطلسي.
تركيا تعرف أكثر من غيرها أوكار وأسرار داعش في سوريا، وهي التي كانت ولا تزال إحدى بواباته من وإلى العالم. كما كانت حاضنة للكثير من أفراده والكثير ممن يتعاطفون معه أو يؤمنون بأفكاره المتطرفة، لكنهم ينتمون لمجموعات أخرى لا تختلف عن داعش كثيرا، مثل جبهة النصرة وحراس الدين وغيرهما من الفصائل الجهادية.
استهداف الولايات المتحدة لزعيم داعش أبوبكر البغدادي في قرية باريشا بمحافظة إدلب السورية، ربما يقدم صورة واضحة حول المعرفة التركية بالتنظيم والمنطقة. كما يقدم صورة واضحة أيضا حول العلاقة بين داعش والتنظيمات والأشخاص، الذين يتعاطفون مع شمال سوريا، وخاصة في مناطق جبهة النصرة.
في شمال سوريا ومنذ سنوات، تحارب تركيا الإرهاب بيد وتطعمه باليد الأخرى. هكذا فعل النظام السوري وإيران وروسيا وأميركا وغيرها، لكن تركيا تفوقت على الجميع وفرضت نفسها اليوم قائدة للحرب المستمرة على الإرهاب في سوريا، تماما كما فرضت روسيا نفسها بوابة للحل السياسي الهلامي في الأزمة هناك. تركيا اليوم هي أكثر الدول استفادة من الحرب على الإرهاب في سوريا، لأنها باتت تبتز بها الخصوم والحلفاء على السواء. وبقاء تركيا في الشمال، غرب الفرات وشرقه، يعني الاستمرار في هذه الحرب الكاذبة التي يستغلها الجميع لإطالة أمد الأزمة، ولتصفية الحسابات وإبرام الصفقات، سواء في سوريا أو أماكن أخرى حول العالم.
أكبر المتضررين من الحرب التركية على الإرهاب، هم الأوروبيون. ليس لأن أنقرة لا تريد لهذه الحرب أن تنتهي، بل لأن هذه الحرب منحت رجب طيب أردوغان ورقة ضغط جديدة على الأوروبيين. في الأمس كان أردوغان يهدد بإغراق القارة العجوز باللاجئين، واليوم بات يهدد باللاجئين وبإعادة الدواعش الأوروبيين إلى دولهم.
التهديد الأردوغاني للأوروبيين لا يشمل فقط إعادة أسرى الدواعش لدى الأتراك، فهناك أيضا الدواعش الذين فروا من معتقلات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الجزيرة السورية وذهبوا إلى تركيا. وهناك أيضا من يختبئون في تركيا أو في أماكن سيطرتها في سوريا، لكن أنقرة لن تعتقلهم إلى أن تحين ساعة الاستفادة منهم لغاية ما في نفس أردوغان.
لا تتيح القوانين في دول الاتحاد الأوروبي إعدام الدواعش العائدين، أو حتى سحب جنسياتهم في بعض هذه الدول. كما أنهم سيخضعون لمحاكمات قد تقود لإطلاق سراحهم. حدث هذا في بريطانيا مع عائدين سابقين لم تمتلك السلطات إلا أن تضعهم تحت المراقبة لأن القضاء لم يستطع إدانتهم بتهم الإرهاب.
في إعادة تركيا للدواعش بشكل غير رسمي أو تهريبهم بين اللاجئين، خطر أكبر بالنسبة للأوروبيين، فحكومات الدول الأوروبية لن تعرف بوجودهم إلا بعد أن يتحولوا إلى ذئاب منفردة وينفذون عمليات إرهابية تزرع الخوف في نفوس الناس، وتستدعي مستويات متقدمة من التأهب الأمني تضيق على الأوروبيين حرياتهم.
تعرف تركيا هذه الحقائق، وتعرف أيضا أن الأوروبيين إذا خُيروا بين عودة دواعشهم والصمت على العدوان التركي على شمال سوريا فسوف يختارون الصمت. وخاصة إذا واصل الرئيس دونالد ترامب تأييده للعدوان التركي على مناطق الشمال، وإصراره على الانسحاب من الصراع السوري خارج حقول النفط شرق نهر الفرات.
ماذا يمكن للأوروبيين أن يفعلوا حيال التهديدات التركية؟ ليس لديهم خيار استحضار جيوشهم إلى الشمال السوري أو إعلان الحرب على تركيا لإسقاط نظام أردوغان. ولذلك لا بد من تجنب تداعيات الحرب التركية على الإرهاب بشكل يبقي بروكسل عدوا سياسيا وحليفا استراتيجيا لأنقرة في ذات الوقت.
يميل الأوروبيون إلى التهدئة مع تركيا. يبحثون عن حلول تحتوي تداعيات تهديداتها المستمرة لهم دون مواجهة مباشرة معها. بعض العقوبات الاقتصادية قد تكفي حاليا، فهي لن تفسد للود قضية مع نظام أردوغان، لكنها ستحفظ ماء وجه الحكومات الأوروبية، وتمنحها الوقت لترتيب البيت الداخلي إزاء هذه الأزمة.
يصعب الحديث عن موقف أوروبي عسكري إزاء التهديدات التركية. المقترح الوحيد الذي أعلن عنه الأوروبيون هو ما تقدمت به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وهو إنشاء منطقة آمنة دولية شمال سوريا. وبحسب الأمين العام لحلف الناتو فإن هذا المقترح يحتاج إلى وقت طويل، ومن الصعب إرسال قوات دولية إلى تلك المنطقة.
ربما تبحث بروكسل عن تسوية ما مع أنقرة، تضمن لها بقاء الدواعش الأوروبيين وغير الأوروبيين بعيدا عن حدود القارة العجوز. تسوية تشبه تلك التي أبرمت بين الطرفين لوقف تدفق اللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي. المال يشتري قبول أردوغان، والتخفيف من حدة التصريحات الأوروبية إزاء عملية نبع السلام يتمم الأمر.
ثمة خطوات أوروبية قد تخفف من خطورة التهديدات التركية في ملف الدواعش. على رأسها تحمل أعباء سجون الدواعش في تركيا وسوريا والعراق، والقبول بإعادة الدواعش الأوروبيين إلى دولهم بشكل رسمي. الخطوتان قد تتيحان للأوروبيين هامشا للمناورة ليس فقط مع أنقرة، وإنما مع واشنطن وموسكو وبغداد.
الولايات المتحدة أكدت أن الموقف الأوروبي إزاء السماح لدواعش القارة العجوز بالعودة إلى دولهم، بات أكثر مرونة. المملكة المتحدة كانت أول المبادرين وتبنت الخطوة جزئيا. فقبل أيام قليلة فقط أعلن رئيس الوزراء بوريس جونسون عن قبول الحكومة بعودة نساء وأطفال الدواعش البريطانيين إلى البلاد.
ربما تقبل لندن لاحقا بعودة جميع الدواعش البريطانيين، ويمكن أن تفعل مثلها جميع العواصم الأوروبية، لكن مشكلة الأوروبيين لن تنتهي إلا بانتهاء الحرب التركية على الإرهاب في سوريا. تلك الحرب، هي التي تتيح لأنقرة مواصلة ابتزاز الأوروبيين في اللاجئين والدواعش. يجيد أردوغان هذه اللعبة، وخاصة عندما يجتمع مع الرئيسين الأميركي والروسي في فريق واحد.