الحكومة التونسية لن تتخلى عن دورها الاجتماعي
لماذا انتظرت دول الاتحاد الأوروبي من الحكومة التونسية أن تخضع لضغوطاتها وضغوطات صندوق النقد الدولي، وتتخلى عن دورها الاجتماعي؟
هل تخلت حكومات دول الاتحاد الأوروبي عن هذا الدور وتجاهلت الفئات الضعيفة في مجتمعاتها؟
الأرقام تقول لا..
فرنسا وحدها أنفقت 30.1 في المئة من الناتج الفرنسي المحلي الإجمالي عام 2019، وهو آخر عام توفرت فيه إحصائيات، على المساعدات الاجتماعية التي قدمتها لمواطنيها. وأنفقت دول الاتحاد الأوروبي 340 مليار يورو على المساعدات الموجهة للأسرة والأطفال خلال عام 2020 فقط. وهو ما يشكل نسبة 8.2 في المئة من مجموع ما تم إنفاقه على المساعدات الاجتماعية.
ولن نحتاج إلى جهاز كومبيوتر وآلة حاسبة لنعرف أن مجموع ما أنفقته دول الاتحاد الأوروبي على المساعدات الاجتماعية تجاوز 3 تريليون يورو خلال عام واحد.
هذا قبل كورونا، وقبل الحرب الروسية الأوكرانية، وقبل أزمة الغذاء والطاقة، وقبل ظهور تأثيرات شح مياه الأمطار والجفاف.
لا نريد أن نغرق في تفاصيل الأرقام، ولكن فقط نريد أن نقول: لا تحرّموا علينا ما هو حلال لكم.
دعم أسعار المواد الغذائية الرئيسية ودعم سعر المحروقات هو مجرد نقطة من بحر المساعدات الاجتماعية التي تقدمونها لمواطنيكم.
يمكن لتونس مستقبلا، وفي ظروف تسمح بذلك، أن تعيد النظر في برنامج الدعم الحكومي. ولكن، هي وحدها من يقرر إن كانت الظروف ملائمة لاتخاذ قرار مثل هذا.
الخليفة عمر بن الخطاب رفض تطبيق العقوبة بالسارق عندما عانت البلاد من المجاعة، وسواء كانت القصة حقيقية أم متخيلة، إلاّ أنها تحمل مغزى عميقا.
الرئيس التونسي قيس سعيد وضع النقاط على الحروف: لا يمكن للدولة أن تتخلى عن دورها الاجتماعي.
وسبق للرئيس سعيد أن قال بوضوح في بداية شهر أبريل – نيسان الماضي “لا نقبل أيّ إملاءات”.
ولكن، هل لدى الحكومة التونسية خيارات بديلة عن الجهات المانحة والمقرضة إن هي قررت عدم الانصياع للضغوط؟
هناك بدائل عديدة.. جولة في الأسواق التونسية تكفي لمعرفتها. أولها التقشف وشد الأحزمة.
ليس في الأسواق الشعبية فقط، بل حتى في الفضاءات الكبرى، سنلاحظ بوضوح تغير عادات الشراء بين المواطنين التونسيين، لا فرق بين ميسور وفقير.
لم يعد التونسيون يشترون دون حساب، بل يبتاعون ما هم في حاجة إليه. ورغم اختفاء بعض المواد الغذائية أو محدودية عرضها، لم يبد التونسيون استياء. إنها “شدة وتزول”.. وإلى أن تزول الشدة سيظهرون الصبر، ويظهرون الدعم، لأيّ إجراء حكومي يحفظ كرامتهم.
من كان يشتري كيلو من الطماطم في السابق، يشتري اليوم حبة طماطم أو حبتين، وما ينطبق على الطماطم يجري على كل أنواع الخضار والفاكهة.. استبدل التونسي اللحم الأحمر بالأبيض، والبعض منهم استغنى عن اللحوم واستبدلها بالبقول.
التقشف، ليس الخيار الوحيد أمام التونسيين للخروج من الأزمة الاقتصادية. التقشف، مجرد رسالة إلى العالم يقول من خلالها التونسيون: نجوع ولا نقبل أن تفرض علينا إملاءات من أطراف خارجية.
هناك خيارات كثيرة تعمل عليها الحكومة التونسية بصمت.
“تونس الخضرا” ليست فقيرة بإمكانياتها، كل ما في الأمر أنها مرت بعشر سنوات عجاف من سوء الإدارة والفساد، وهو ما تعمل الحكومة جاهدة على التخلص من تبعاته.
يكفي تونس أن تنجح في ترويض الاقتصاد الموازي، الذي لا يخضع للضرائب أو الرقابة، والذي يمثل حوالي 30.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. أي أضعاف مضاعفة للقرض المنتظر من صندوق النقد الدولي.
تونس التي لقبت يوما بسلة غلال روما، لن تخضع للإملاءات. فهذا ليس خيار الرئيس التونسي قيس سعيد، وحده، بل هو خيار التونسيين من أبسطهم إلى أكثرهم علما واطّلاعا.
محيّر هو صبر التونسيين الذي لم تجد حياله دول الاتحاد الأوروبي سوى دعم موقف الحكومة التونسية، وتمارس الضغط بالخفاء على صندوق النقد الدولي الذي أكد أنه على وشك الانتهاء مـن ترتيب مالي من شأنه أن يسمح لتونس بالحصول على تمويل بقيمة 1.9 مليار دولار.
الدخان الأبيض تصاعد من مبنى صندوق النقد الدولي معلنا الوصول إلى حل جاء بعد يوم على إعلان الولايات المتحدة على لسان سفيرها في تونس جوي هود استعدادها لدعم تونس ومتابعتها، والعمل على إعادة النظر في بعض المطالب في علاقة بملفها في صندوق النقد.
الخبر “السار” جاء على لسان مدير إدارة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ووسط آسيا في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور “كنا في حاجة إلى ضمان وجود تمويل كاف للبرنامج.. والخبر السار هو أننا أوشكنا على الانتهاء”.
ليس خفيّا على أيّ مطّلع على الشأن التونسي أن تونس لم تخضع للإملاءات التي فرضت عليها. التراجع حصل من الضفة الشمالية للبحر المتوسط التي تعلم دولها أن ليس من مصلحتها أن يقال يوما إنها لم تقف إلى جانب تونس في محنتها، خاصة بعد أن أيقنت أن التونسيين لن يسمحوا أن يتحول بلدهم إلى بلد فاشل.
سبق لهم أن رشوا أرض قرطاج بالملح حتى لا ينبت فيها العشب. ماذا حصل؟ نبت العشب وأصبحت تونس خضراء من جديد.