الدبيبة وخيار التواصل مع حفتر
الحبيب الأسود
قبل أيام نفت السفارة الأميركية بليبيا، والتي تباشر عملها من العاصمة التونسية، أن يكون قد صدر عنها أي موقف ضد القائد العام للجيش المشير خليفة حفتر، ووصفت ما نسب إلى السفير ريتشارد نورلاند، من أنه طالب حفتر بالانسحاب من المشهد الليبي، بأنه “مثال للمعلومات المضللة”، وحذرت الليبيين من أن “هناك من يحاول خداعهم عبر الإنترنت”.
موقف السفارة كان واضحا، لكن التغريدة المزوّرة المنسوبة لنورلاند تكشف عن طبيعة الصراع المحتدم في المشهد الليبي، والحرب الباردة التي تدور رحاها ويقوم فيها الإسلام السياسي وأمراء الحرب بدور محوري، منطلقين من أن لا مجال لمصالحة وطنية ولا لتوحيد المؤسسة العسكرية، بل ولا أفق لتنفيذ بنود الاتفاق العسكري، ولا حتى لتنظيم الانتخابات في موعدها المحدد للرابع والعشرين من ديسمبر، طالما أن ذلك لا فقط يتناقض مع مصالحهم، بل لأنه يحول دون تمكينهم من إدامة الوضع على ما هو عليه بما يشكله من خدمة لمشروعهم ولمشروع المحور الإقليمي الذي ينشطون ضمنه، والذي قد يحاول تغيير ملامحه الخارجية ولكنه يحافظ على ممارساته الفعلية في الخفاء.
سيكون من البديهي أن يتساءل المرء عن دور السلطات الجديدة المنتخبة من قبل ملتقى الحوار السياسي بغطاء أممي في الخامس من فبراير الماضي، وهل نجحت في تحقيق الأهداف الملقاة على عاتقها، ليأتي الجواب الذي تحدده تجليات المشهد الليبي بأن المجلس الرئاسي يحاول بما توفرت له من صلاحيات، أن يفي ببعض تعهداته، ولاسيما في ما يتصل بجهوده لجمع كل مواطنيه تحت خيمة الوطن، ويساعده على ذلك أن رئيسه ينحدر من شرق البلاد الذي حسمت فعالياته الاجتماعية موقفها من المصالحة الوطنية منذ سنوات، واستطاع الجيش أن يشكّل فيه تمظهرات الدولة التي يتّهمها منتقدوها بأنها عسكرية، كما أن نائب المجلس عن إقليم فزان موسى الكوني شخصية جامعة ومشهود لها بالخصال الوطنية، ويحمل معه ثقافة قومه من الطوارق الساعين لنشر قيم التسامح وطي صفحة الماضي، ونفس الشيء بالنسبة إلى النائب عن طرابلس عبدالله اللافي الذي لم يبدِ ما يشكك في نزاهته، وإنما صدرت عنه مواقف جيدة بكلمات محسوبة وفق التوافقات الحاصلة داخل المجلس.
المسائل التنفيذية تبقى من مشمولات الحكومة التي تضم وزراء على قدر من المسؤولية، ولكن رئيسها عبدالحميد الدبيبة يجد نفسه أمام تحديات كبرى أبرزها أن يحاول تجاوز عقدة أنه ينحدر من مصراتة، المدينة التي يريد لها بعض قادتها الجهويين الانعزاليين وآمري ميليشياتها أن تواصل التحرك من منطلق المدينة المنتصرة، والتي يعرقل أمراء الحرب فيها تنفيذ بنود الاتفاق العسكري، ومنها المتعلق بفتح الطريق الساحلي.
كما على الدبيبة أن يتصدى لمحاولات تدجينه في الزاوية التي سبقه إليها فايز السراج بدفع من الإسلام السياسي وأبواقه وعنجهية الميليشيات والضغوط الداخلية والخارجية، وأن يكون أكثر جرأة في مواجهة تلك المحاولات، وذلك بكسر العقدة النفسية إزاء المنطقة الشرقية وخاصة قيادة الجيش التي تبقى ذات دور محوري سواء في الحرب أو في السلام، وبفتح باب الحوار معها، انطلاقا من مبدأ الشراكة في الوطن، والعمل على بناء جسور الثقة بما يبعد شبح الصراع ويساهم في توحيد مؤسسات الدولة بشكل نهائي.
إن بقاء الوضع على ما هو عليه، هو إشارة سلبية مفادها أن هناك أطرافا في غرب البلاد لا تزال تراهن على الحرب للسيطرة المطلقة على البلاد ومقدراتها، وهي تعتقد أن الحكومة قادرة على عزل قيادة الجيش داخليا وخارجيا، واعتماد دبلوماسية الصفقات في حرمان حفتر من تحالفاته الإقليمية والدولية السابقة، وإخراجه من شبّاك الأحداث، لكن هذا الاعتقاد خاطئ لأن البديل المطروح عن الجيش غير قابل للتحقق الفعلي على الأرض، وأعني به جهاز الحرس الثوري الميليشياوي الذي تطمح قطر وتركيا إلى أن يكون القوة العقائدية العسكرية للإخوان.
عندما بدأ الدبيبة في تلقي ملفات المترشحين لعضوية حكومته، كان قد اشترط أن يكون كل مترشح قادرا على العمل في كافة أرجاء البلاد، بمعنى أن تتغلب هويته الوطنية على هويته الجهوية أو المناطقية أو القبلية أو الحزبية والعقائدية، وعندما شكّل الحكومة، اختار أن يحتفظ لنفسه بحقيبة الدفاع وهي في الأصل من حصة إقليم فزان، وقرأ البعض ذلك الاختيار بحسن ظن، ورجح أن يكون الهدف هو أن يجتمع رئيس المجلس الرئاسي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة مع وزير الدفاع على تدشين مرحلة التواصل العملي مع قائد الجيش، والذي حتى وإن كان مقره في شرق البلاد، فإن لديه قوات قوامها 100 ألف مقاتل بتراتبية عسكرية حرفية ومن مختلف مناطق البلاد، كما أنه يحتكم على مساحات شاسعة من جغرافيا ليبيا وعلى قواعد عدة في الشرق والوسط والجنوب، وهو بالتالي لاعب محوري لا يكتمل اتفاق الوضع النهائي دون الجلوس معه وجها لوجه على طاولة المفاوضات.
لا يحتاج الدبيبة رئيس الحكومة ووزير الدفاع إلى وسيط للذهاب إلى بنغازي والاجتماع بالمشير خليفة حفتر، ولكن إذا أراد أن تكون المبادرة ذات بعد وطني اجتماعي، فبإمكانه الانتقال مع وفد من أعيان مصراتة وطرابلس والزاوية وأي مدينة أخرى إلى مقر إقامة المستشار عقيلة صالح في مدينة القبة ودعوة حفتر إلى لقاء هناك يمكن أن يكون فاتحة لكسر الجمود بين الطرفين، فالحوار الحقيقي في السياسة هو ذلك الذي يكون بين الفرقاء، والذي يصنعه الشجعان لفك فتيل المواجهات.
بما هو عليه الوضع الحالي، ستبقى الأزمة تراوح مكانها، واستمرار الحرب الباردة سيؤدي إلى ضبابية تترك الباب مفتوحا على جميع الاحتمالات، وأي حرب جديدة لن تدفع إلا نحو تقسيم البلاد، وقد يكون ذلك هو الخيار الأخير أمام المجتمع الدولي الذي بدأ يشعر باليأس في ظل المناورات التي تطغى على المشهد بكل تفاصيله. وإذا كان المهندس الدبيبة يريد تسجيل اسمه كصانع حقيقي للسلام وكقائد كفء لهذه المرحلة الانتقالية، ما عليه إلا أن يطرق باب “الرجمة” ولو عن بعد، وأن ينأى بنفسه عمن يراهن على عنصر الزمن، لأن القادة الحقيقيين هم من يستبقونه بالفعل لا من ينتظرون ما يحدده لهم في مساراته غير المضمونة.