الرأسمالية المسلحة
أحمد مصطفى
كما ذكر المفكر المصري الراحل الدكتور فؤاد مرسي في كتابه الذي صدر ضمن سلسلة عالم المعرفة بالكويت، فإن الرأسمالية تجدد نفسها دوما كعلامة مرونة وقدرة على الاستمرارية.
لكن ما نشهده الآن، ويأتي تتويجا لممارسة أميركية بالأساس ثم غربية ودولية فيما بعد، من استخدام المال والاقتصاد كسلاح في الحرب وليس فقط للردع أو التفاوض يبدو غريبا إلى حد ما عما فكر فيه وكتبه الدكتور فؤاد مرسي.
في كلمته في العاصمة البولندية وارسو بعد أسابيع من بداية الحرب الروسية في أوكرانيا، قال الرئيس الأميركي جو بايدن عن العقوبات التي فرضتها أميركا والغرب على روسيا: “هذه العقوبات الاقتصادية هي نوع جديد من أدوات السياسة يمكنها أن توقع من الضرر يقدر ما تفعله الأدوات العسكرية.. إنها تضعف قوة روسيا وقدرتها على تعزيز قوتها العسكرية وإمكانية ممارستها للسلطة”. صحيح أن بايدن لم يبتكر سلاح العقوبات، بل سبقه إليه جورج بوش الابن ومن بعده، لكنه يفرض الآن أشد نظام عقوبات اقتصادية ومالية على خصم. كما أنه عكس العقوبات السابقة على دول مثل أفغانستان والعراق وإيران وغيرها، فالعقوبات تستخدم الآن باعتبارها السلاح الرئيسي مقابل أسلحة الحرب التقليدية الروسية في أوكرانيا.
هذا التطور الجديد من الرأسمالية المسلحة، أي التي تستخدم سطوتها المالية والاقتصادية كسلاح مباشر في حرب دائرة بديلا للحرب العسكرية، لا ينطبق عليه توصيفات تقليدية. فهي ليست تطورا وانتقالا من الرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الصناعية إلى مرحلة الرأسمالية المالية. ولا حتى لها علاقة بالانتقال إلى مراحل أحدث من تطوير الرأسمالية لنفسها حتى مرحلة الرأسمالية “الافتراضية” التي تعتمد على التكنولوجيا والعملات المشفرة وغيرها.
إنما الأمر يبدو أقرب لتصور تطور علاقة البزنس بالسياسة (وبالتالي بالعسكرية باعتبار الحرب امتداد للدبلوماسية بطريقة مختلفة) منذ القرن الثامن عشر. ففي البداية كانت السياسة تقود البزنس الذي يمولها مقابل أن تحقق له مصالحه. وكانت فترة الاستعمار والامبراطوريات الكبرى مثال واضح على تمويل البزنس للسياسة لتحتل مناطق جديدة توفر مصادر المواد الخام وغيرها من مدخلات الإنتاج وأسواق التوزيع. واستخدمت السياسة القوة المسلحة في ذلك. ثم جاءت فتر تشارك فيها البزنس والسياسة إدارة الحكم بشكل يشهد طغيان هذا على ذاك حينا، لكن في النهاية يتشارك الجانبان إدارة شؤون الدول وتحديد أولويات سياستها الخارجية. أما الآن، فيبدو أن البزنس تقدم حتى أصبح الأمر وأن السياسة تتبعه، وتأتي القوة العسكرية في المرتبة التالية.
ساعد على ذلك تطور الاعتماد المتبادل بين دول العالم ما بعد الحرب الباردة، الذي اصطلح على تسميته “العولمة”. وكتب كثير من المنظرين عن أن العولمة لن تقتصر فقط على الاقتصاد ورأس المال وإنما ستشمل كل شيء من حرية انتقال البشر وعولمة الفن والثقافة.. الخ. لكن ما نشهده منذ بداية هذا القرن هو عكس كل تلك الأفكار المثالية والمقولات التبشيرية غير الواقعية.
صحيح أن الولايات المتحدة تستخدم سلاح العقوبات منذ ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وبدأتها بعقوبات لمنع تمويل الجماعات الإرهابية. وتوسعت فيها بعد ذلك لتفرضها على دول بكاملها كما حدث مع أفغانستان والعراق ثم إيران بسبب نشاطها النووي الخطير، لكن في كل تلك الأحوال لم تكن هذه الدول تملك اقتصادا مهما في منظومة العولمة. والأهم أن استخدام السلاح المالي والاقتصادي لا يستهدف فقط خنق روسيا اقتصاديا وربما إخراجها من النظام المالي والاقتصادي العالمي كله. إنما الهدف الأهم هو أن ذلك قدي كون ببساطة “بروفة” لما يمكن أن يحدث مع الصين، حتى دون اقدامها على حرب تخصها في تايوان.
سبق ان فرضت الولايات المتحدة، وحلفائها الغربيين، عقوبات على بنوك مركزية لدول مثل إيران وفنزويلا. لكن تجميد أصول البنك المركزي الروسي يختلف، ليس بسبب كبر حجم تلك الأصول الروسية ولكن لأن الاقتصاد الروسي أصبح أكثر تشابكا مع العالم ونظامه المالي والاقتصادي في السنوات الأخيرة. وربما هذا ما يجعل البعض في الغرب يناقش حاليا إن كانت تلك بداية نهاية العولمة. ربما كان ذلك نقاش سابق لأوانه، خاصة وأننا قد نشهد مجددا رواية مختلفة تعدد فوائد العولمة وتطورها وعن ميزات مرحلتها الجديدة.
أتصور أن أهم ما يمكن أن يكون بقية العالم قد اكتشفه الآن ان العولمة كانت أفضل وسيلة تربطك بالأسواق (للتجارة والاقتراض والاستثمار) ثم يستخدم ذلك الرباط لخنقك حين يريد من بيده أكثر أطراف خيط النظام العالمي. والهدف الأميركي النهائي، القابل للتحقق بواسطة الرأسمالية المسلحة، قطع أطراف صاعدة كروسيا والصين ورما بعد ذلك الهند وجنوب افريقيا وغيرها.