السابقة البريطانية
بعد أسابيع من السجالات، نجحت الحكومة البريطانية في تمرير قانون “حظر المهاجرين غير الشرعيين” عبر البرلمان بغرفتيه العموم واللوردات.
لم يتبق سوى ختم الملك تشارلز الثالث حتى يبدأ طرد كل من يطأ المملكة المتحدة بطريقة غير قانونية، ويحرم من اللجوء كل هارب من الموت أو فار من الجوع، اختار الإبحار من فرنسا إلى السواحل الإنجليزية عبر قارب صغير تتقاذفه الأمواج وصيحات الخوف.
لن تعترف لندن إلا بمن يلجأ إليها بطرق قانونية، فلا يمكن أن تدخل المملكة المتحدة خفية أو بأوراق مزورة، ولا يهم إن كنت طفلا أو امرأة أو عجوزا أو عاجزا. فسينتهي الأمر بك على ظهر ناقلة بحرية تأكل وتشرب وتنام، حتى يجدوا لك دولة ثالثة “آمنة” لتبعد إليها، ولن يكون بإمكانك الاعتراض أمام القضاء، ولا استعطاف منظمات حقوق الإنسان. ستبعد إلى الأبد ولن تدخل الأراضي البريطانية مرة أخرى.
مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة أدانت القانون لقسوته، ولكن ما تخشاه المنظمة الأممية أكثر من القسوة، هو أن تتحول السابقة البريطانية إلى قدوة ومثل أعلى يحتذى به من الدول التي لا تخفي نقمتها على اللاجئين، وخاصة تلك التي تقودها أحزاب يمينية لطالما اعتبرت الهجرة غير الشرعية أس المصائب، وسبب المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعانيها أماكن استطونها، أو حتى مر بها لاجئون.
السابقة التي تشير إليها الأمم المتحدة لا تتمثل بخطط المملكة المتحدة لإعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى أوطانهم الآمنة، أو البحث لهم عن جهة ثالثة يمكنهم العيش فيها بسلام وكرامة. وإنما هي تتلخص في عزمها معاقبة من يصل البلاد بطريقة غير قانونية. فلا يهم سبب لجوئه ولا دافع هروبه إلى بريطانيا، المهم فقط هو تجريم فعله، ونفيه خارج الحدود ليصبح عبرة لكل من تسول له نفسه القيام بذات الأمر.
القانون الدولي، باعتراف مفوضية اللاجئين ذاتها، يقر بصعوبة الهجرة الشرعية إلى دول اللجوء التي يقصدها كل من فر هربا من الحروب والموت والجوع في بلاده، فهؤلاء في غالبيتهم إما هاموا على وجوههم دون أن يأخذوا من منازلهم شيئا، ثمينا كان أم غير ثمين، أو تدمرت بيوتهم تحت قصف صاروخي أو مدفعي.
من ضاقت بهم سبل العيش حتى بات الموت غرقا في بحور اللجوء أسهل عليهم من البقاء في أوطانهم، لا يعرفون طريقا للسفارات البريطانية، أو لا توجد واحدة أصلا في مخيماتهم أو بلدانهم. هم اختاروا الهجرة غير الشرعية لأنها السبيل الوحيد أمامهم، ولطالما اعتقدوا أن حق الإنسان بالحياة يسمو في المملكة المتحدة فوق كل خشية يمينية من ثقافات وأديان الأجانب، أو ضعف مالي أصاب خزينة الدولة، أو قلق أمني من تسلل الإرهاب عبر أجساد بعض من ذهبت عقولهم بفعل الجنون أو التطرف.
هل بين المهاجرين غير الشرعيين من اختار الرحيل إلى المملكة المتحدة طمعا بمساعدات الحكومة، وسعيا وراء العيش كطفيلي يمتص جهد البريطانيين وحضارتهم؟ الجواب هو نعم. هل كل من حملتهم القوارب الفرنسية لشواطئ المملكة المتحدة، تحترق دولهم بلهيب الحرب أو تلفظ أنفاسها بسبب الفقر؟ الجواب هو لا. وبالتالي لا بد للبلاد من قوانين تحميها من المتطفلين والمدعين فقط، وليس من اللاجئين.
الأرقام الرسمية تقول إن أكثر من 45 ألف مهاجر حملتهم القوارب إلى سواحل إنجلترا خلال العام الماضي، 16 ألفا منهم قدموا من ألبانيا التي تتمتع بعضوية الاتحاد الأوروبي. أما البقية فيتوزعون بين سوريا والعراق وإيران والسودان والصومال وإريتريا وغيرها من دول يستحق حملة جنسياتها النظر في طلبات لجوئهم واستغاثتهم، والتدقيق في حقيقة حاجتهم للهجرة، واستعدادهم للعمل في بريطانيا.
لا يبدو التمييز بين المستحقين للجوء والمدعين أمرا مستحيلا، والصعوبة الكامنة في الأمر لا تبرر إصدار تشريع كقانون “حظر اللاجئين”، أما رغبة الحكومة بوأد حلم الهجرة إلى المملكة المتحدة في عقول المهاجرين قبل أن يركبوا القوارب القادمة من فرنسا، فلن تتحقق لأن فرصة بلوغ هذا الحلم، مهما صغرت، ستبقى أكبر من عواقب الفشل. كيف لا، وقد تفوقت على رهبة الموت والخشية من الغرق.
لقد سجلت المملكة المتحدة سابقة في تقنين رفض المهاجرين. ولكنها ليست الدولة الوحيدة في القارة الأوروبية التي ترفضهم. وليست الدولة الوحيدة التي سعت وتسعى، إلى ترحيلهم لجهة ثالثة آمنة، كما توصف في الإعلام المحلي. هناك عواصم غربية فعلت وتفعل، أكثر من لندن، وتتخلص من اللاجئين بطرق لا تقل بشاعة عن القانون الذي يمنع المهاجرين من حق اللجوء لأنهم دخلوا البلاد بطرق غير قانونية.
ألا ينطوي سماح فرنسا لقوارب الموت بالإبحار من شواطئها على رغبة حقيقية بالتخلص من المهاجرين؟ أليس تخلي إيطاليا عن سفن المهاجرين في عرض البحر، وتركها لتواجه الغرق أو موت ركابها من الموت والجوع، سابقة تستحق أن تخشاها الأمم المتحدة أيضا؟ ألا يعتبر استغلال دول للاجئين والاتجار بهم من أجل الحصول على مساعدات وأموال، أو الضغط على دول أخرى، سلوكا غير مقبول كذلك؟
العديد من دول القارة العجوز شرعت بالبحث عن وجهة ثالثة لترحيل المهاجرين أو منعهم من الوصول إلى أراضيها، قبل أن تخرج المملكة المتحدة بقانونها الجديد. قادة ومسؤولون غربيون حلوا ضيوفا على دول إفريقية خلال الأعوام القليلة الماضية، ليعرضوا عليها استقبال اللاجئين أو احتجازهم في مراكز لا توفر العيش الكريم. فالمهم فقط أن تكون المحطة الأخيرة في رحلة الحالمين بالجنة الأوروبية.
إن كان الأوروبيون لا يستطيعون استقبال جميع المهاجرين بذات الحفاوة والترحيب الذي يجدهما اللاجئون من أوكرانيا، فمن الأفضل أن يبحثوا عن خيارات مجدية للتعامل مع الفارين من الحرب أو الاستبداد أو الجوع. ولعل من المفيد في هذا الشأن أن يتذكروا المثل الصيني القائل “إذا أردت أن تزرع لسنة فازرع قمحا. وإذا أردت أن تزرع لعقد فازرع شجرة. أما إذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع إنسانا”.
لن تجد القارة العجوز أفضل من هذه الحكمة للتعامل مع المهاجرين الذين وصلوها حتى ولو بطرق غير قانونية. فإن أحسنت الدول الأوروبية دمج أبناء اللاجئين بثقافتها وقوانينها تحولوا إلى مواطنين صالحين بعد عقد أو عقدين. أما الحالمون بركوب البحار والمحيطات بحثا عن حياة أفضل، فلن يمنعهم إلا الحصول على عيش كريم في أوطانهم الأصلية. فهذا هو البديل الوحيد، ولو أنكره العالم لقرون وقرون.