السلطة الفلسطينية بعد إصلاحها
كثر الحديث عن إصلاح السلطة الفلسطينية على أكثر من مستوى، استعدادا لليوم التالي لوقف الحرب على قطاع غزة، ورغم كثافة الاجتهادات حول الشكل الذي يجب أن تكون عليه السلطة، إلا أن أيّا منها لم يقدّم رؤية تجد قبولا فلسطينيا، من فتح وحماس، أو إسرائيليا، أو أميركيا.
دخلت مصر بمبادرة جديدة أخيرا رشحت معلومات عنها جعلتها أكثر التقديرات وضوحا بعد أن راعت جملة من التوازنات الإقليمية وأخذت في حسبانها حدا مناسبا من متطلبات الشعب الفلسطيني، والهواجس الإسرائيلية، والمخاوف الأميركية من انفلات الصراع الحالي في غزة وعليها وحولها وخروجه عن نطاق السيطرة.
يستهدف التحرك المصري إنقاذ ما يمكن إنقاذه كي لا تترك القضية الفلسطينية في مهبّ رياح وعواصف عاتية، أو في حوزة رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو يتلاعب بها كما يشاء ويحقق أهدافه الشخصية بموجبها.
وقد تتقاذفها فصائل، كما حدث في سنوات ماضية، وتتوه معالمها الرئيسية، ويتم فقدان زخم حصلت عليه أخيرا، فخطوات التهدئة المرجوّة وصولا إلى وقف إطلاق النار بين المقاومة وإسرائيل يرمي إلى استرجاع القضية ووضعها على طريق صحيح يحقق لها تماسكا في الوقت الراهن.
يقود هذا التماسك إلى توافق حول سلطة فلسطينية قابلة للحياة والتطور، فنظام الحكم الجديد من الواجب أن يفضي إلى مقومات دولة هذه المرة، وتحاشي أخطاء النسخة الأولى من سلطة عجزت عن التعامل مع معطيات المشهدين المحلي والإقليمي.
بات الحديث عن تغيير السلطة الفلسطينية أولوية لدى الأطراف المعنية بتقويض ما يجري في غزة، وليس بالضرورة أن يكون التغيير يؤدي إلى الأفضل من وجهة نظر فلسطينية، فإسرائيل التي تردّدت داخلها أصوات ناقشت هذه المسألة ترى أن فكرة الإصلاح تكمن في سلطة ضعيفة، وربما عاجزة، المهم أن تحقق المتطلبات العاجلة لأمن إسرائيل، ولا تحوي شيئا يتضمّن دورا لحماس أو مقاومة مسلحة، ما جعل نتنياهو لا يكل أو يمل من التمسك برغبته في فرض هيمنة غير مباشرة على غزة.
يستوجب الإصلاح على طريقة نتنياهو أن يكون وفقا لمقاييس إسرائيل المختلة، فلا وجود فيه أصلا لدولة أو سلطة ذاتية حقيقية، والمطلوب دويلة مشوّهة أو سلطة محدودة تستوعب كل من تراه إسرائيل منبوذا، على أمل أن تفضي هذه النتيجة إلى التخلص من كل أنواع الصداع الذي تمثله حماس والجهاد من جهة وأخواتهما من فصائل المقاومة من جهة ثانية، حيث يعتقد نتنياهو أن الفرق بين الفريقين ينحصر في الطريقة والوقت الذي يريد كلاهما التخلص فيه من إسرائيل.
فإذا كانت عملية الإصلاح التي تريدها إسرائيل بلا أنياب وأظافر فلسطينية، فالحماس الأميركي لإصلاح حال السلطة الفلسطينية ليس بعيدا عن ذلك، لأن المراد من تحركات واشنطن امتصاص الغضب الراهن من دون تقديم رؤية واضحة.
فتارة تتحدث الإدارة الأميركية عن حل الدولتين من دون أن تبذل جهدا لوقف إطلاق النار، وأخرى تشير إلى مستقبل غزة أمنيا وسياسيا بصورة مبهمة، وثالثة عن شكل السلطة المطلوبة لإحكام السيطرة بعيدا عن وجود مباشر لإسرائيل، وتتفرع عن المقترحات تقديرات لا ينطوي أحدها عن رؤية ناضجة، فالإدارة الأميركية تهرب من الواقع الحالي بالقفز على مناقشة شكل السلطة الفلسطينية ومركز حماس فيها وأسس حل الدولتين وكيفية إقناع إسرائيل أو الضغط عليها، حيث تسعى لتكون حماس خارج المشهد مهما حصدت من مكاسب رمزية في هذه الحرب.
تدعم واشنطن رغبة قوات الاحتلال في اجتثاث حركة حماس سياسيا وأمنيا كخيار يجنّبها الدخول في محادثات حول مكانتها في المرحلة المقبلة، ولا تزال تمنح إسرائيل صلاحية التخلص منها لتتفرع لمناقشة مصير غزة في أجواء تزيد موقف الفلسطينيين صعوبة وتحجّم سقف مطالبهم.
تضع واشنطن الاجتهادات التي تريدها للسلطة الوطنية على الطاولة بقليل من الرفض للشراكة معها لاحقا، ما يعني أن آلية إصلاحها ليست واضحة، بل ثمة تعمّد لتكون غامضة ولا تخدم التوصل إلى حل مستقر، ما يعيد إنتاج أخطاء اتفاق أوسلو الذي تم تشويهه مع سبق الإصرار والترصد من قبل أطراف متباينة، ورأت واشنطن ومعها حكومات عدة في تل أبيب أن السلطة الفلسطينية المطلقة مفسدة مطلقة لإسرائيل.
ومهما كانت التوجهات الخارجية قاتمة ولا تلبي طموحات الفلسطينيين، تظل المصالحة الداخلية وإنهاء الانقسام بين القوى المختلفة نقطة البداية لإصلاح السلطة الوطنية، فالترتيبات التي تعد لها إسرائيل والرؤى المختلفة التي تقدمها واشنطن لن تقدما سلطة تستطيع التعامل مع تحديات المرحلة القادمة، ما يفرض على الحركات الاتفاق على كلمة وطنية والاحتكام إلى الانتخابات، وأيّ سلطة مؤقتة عليها التمسك بالثوابت الفلسطينية والقواسم المشتركة التي تؤدي إلى تبني رؤية واحدة بعد أن تاهت في السنوات الماضية، ومن نتائج هذا التيه ارتباك الرؤية الوطنية.
استفادت إسرائيل كثيرا من التراشقات والانقسامات والتجاذبات، ولا تزال تراهن على استمرار هذا الأمر، لأن حرب غزة ونتائجها الظاهرة لم تفلح في علاج أخطاء المرحلة الماضية، قد تكون التسريبات التي تحدثت عن لقاءات بين قيادات من فتح وحماس مفيدة في التوصل إلى مواءمات سياسية جديدة، لكن لن يحدث ذلك بلا توافق حول آليات اختيار قيادة قادرة على التعامل مع المستجدات، لأن سلطة الرئيس محمود عباس (أبومازن) شاخت، وسلطة حماس تسببت في مأزق قد تكون تبعاته صعبة، وإن نجحت حماس في تحريك القضية الفلسطينية وإعادتها إلى الواجهة.
تدفع شيخوخة أبومازن وتصرفات حماس الفردية إلى وضع نقطة والبدء من أول السطر الفلسطيني، بمعنى طيّ الصفحة الماضية بكل عيوبها واستخلاص العبر منها، وأول العبر ضرورة منح الشعب فرصة اختيار السلطة التي يراها مناسبة، شريطة تمكينه من ممارسة حريته، والتي لن توافق عليها إسرائيل.
لكنها ستبقي الباب الذي يمكن الدخول منه لاختيار سلطة وطنية تجابه الأزمات المتراكمة التي لن تتمكن قيادة فلسطينية من تفكيك عقدها سوى بقدر وافر من توافق، قوامه السياسي الابتعاد عن المحاصصة البغيضة التي تمنح أو تمنع وفقا لأسس لا علاقة لها بالأوزان الشعبية على الأرض، حيث تُحسب بالأوزان المسلحة أولا.
ويمكن أن تخرج حماس من الحرب منهكة عسكريا وسياسيا واقتصاديا، في وقت أصبحت حركة فتح والسلطة الحالية التي تقودها منهكتين أصلا ومنذ سنوات، وهذا التوازن قد يصبح مفيدا في إعادة صياغة هياكل سلطة فلسطينية على قاعدة الإرادة الشعبية، لأن معادلة فتح وحماس وأيهما يأكل الآخر سياسيا انتهت أو على وشك الانتهاء مع متغيرات إقليمية جديدة أوجدتها الحرب.