الصين وأميركا.. بين “الديكتاتور” و”شعرة معاوية”
لطالما شكلت العلاقة مع الصين هاجسا لحظيا للرؤساء الأميركيين منذ انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق.
وحتى في لحظات “الصفاء المتكلف” في العلاقة بين البلدين، فإن التصنيف الواقعي الذي يراه كل منهما في الآخر لا بد أن يطفو على السطح، ونلحظ ذلك بوضوح فيما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أيام قليلة خلال احتفالية لجمع التبرعات في ولاية كاليفورنيا، حيث أعلن صراحة أن نظيره الصيني يشبه “الحكام الديكتاتوريين“، رغم أن وزير خارجيته أنتوني بلينكن نجح خلال زيارته الأخيرة للصين في إزالة كثير من التشنجات التي شابت علاقة البلدين منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب وحربه التجارية المعلنة تجاه الاقتصاد الصيني، وصولا إلى ذلك التمدد السياسي الذي طبع نشاطات الصين في مناطق كان نفوذها بعيدا عنها، وكانت الولايات المتحدة صاحبة النجاحات والنفوذ السياسي المطلق فيها، مثل منطقة الشرق الأوسط.
بداية أقول إن “العلاقة المعقدة” هو الوصف الأمثل لما شاب علاقة الولايات المتحدة مع الصين منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فلا الولايات المتحدة شنت حربا باردة عليها كما فعلت مع السوفييت، ولا بكين أرادت الوقوف بشكل لا لبس فيه أمام ما أرادت واشنطن تسويقه في قرارات مجلس الأمن على مدى العقود الماضية، بل يمكن القول من دون مبالغة إن الصين كانت على الدوام بمثابة ذلك “الجار البعيد” الذي يطلب السلامة، وهو، وإن كان يملك الكثير من عناصر القوة، فهو أيضا يريد “التودد” لتلك القوة العظمى التي لا يرغب التورط معها ولو عبر إثبات الحقيقة في تورطه بإرسال منطاد كانت به معدات تجسس، وهي أي الصين تتمنى دوما أن تكون علاقتها بالولايات المتحدة ثابتة ومستقرة عنوانها التعايش السلمي والتعاون الاقتصادي.
النصف الأول من هذا العام حمل إرهاصات كثيرة على أن كلا البلدين لا يرغب في قطع “شعرة معاوية” مع الآخر، ففي كل ساعة تخرج تصريحات من وزارة الخارجية الأميركية عن أهداف الزيارات المتبادلة مع المسؤولين في تايوان، بينما تعلن الصين صراحة أنها لا تريد لتنافسها الاقتصادي مع الولايات المتحدة أن يتحول إلى صراع، حيث تتخوف بكين من أن “مجموعة الحوار الأمني الرباعي” تحاول تطويق الصين اقتصاديا، وهو أمر تنفيه الإدارة الأميركية على الدوام.
ورغم عدم تناول الإعلام لتبعات ومتطلبات هذا الحوار الأمني الرباعي “quad” الذي هو حوار غير رسمي ينبع من منطلقات استراتيجية أعلنتها الولايات المتحدة مع اليابان والهند وأستراليا، وترى فيه الصين محاولة لتطويقها اقتصاديا، فإنها لا يمكنها إغفال تناوله في اللقاءات بين البلدين.
لكن ومن باب إحقاق الحقيقة، فإن بايدن يبقى أقل جرأة من الرؤساء الأميركيين الآخرين فيما خص العلاقة مع الصين، فالسقف الأعلى هو إعلانه آراءه التي يقتنع بها بشأن تلك العلاقة، فلا هو يمكنه إغفال أن الصين تتمدد في مناطق فشلت إدارته في حل الصراعات فيها وكان رفع يد الولايات المتحدة عنها بمثابة الضوء الأخضر لتلك الدول لتبذل ما تستطيع من محاولات، يترتب عليها بالطبيعة الحصول على فوائد اقتصادية، ولا هو ذاك الذي يعلنها حربا اقتصادية منطلقها فرض عقوبات وضرائب متجددة على الاقتصاد الصيني كما فعل سلفه ترامب.
لقد أراد نظام بايدن الانفتاح على الصين خلال شهر فبراير الماضي، لكن المجازفة الصينية بإرسال منطاد يمكن أن تعتبره الولايات المتحدة “عملا عدوانيا” تحت أي بند قد تراه، كان أقرب إلى الإشارة إلى أن هناك مؤسسات داخل الصين لا ترغب في الحوار حاليا مع واشنطن، ولو كان ذلك من وراء ظهر “الدكتاتور” الصيني الذي نفى علمه بتلك الحادثة.
واليوم نجحت الولايات المتحدة وإدارة بايدن تحديدا في استغلال تلك الواقعة، ومحاولة إلزام الصين بدفع أثمان سياسية -البحث عن الحوار في قضية تايوان وليس الرد العسكري على الزيارات الأميركية- وأما الآداب الدبلوماسية والكرامة السياسية التي تتحدث عنهما الخارجية الصينية فمن نافلة القول إن أميركا وإدارة بايدن تراهما، ومعهما الحق في ذلك، قد انفجرا وتحطما ساعة انفجار المنطاد الصيني.
اليوم يمكنني أن أقول إن بايدن نجح في فصل جديد من فصول الحرب الأميركية متعددة الفصول على التنين، فقد استطاع استدراج “الديكتاتور الصيني” لأجل أن يتصل به ويرجوه ألا يواصل العمل في “مجموعة الحوار الأمني الرباعي” لما ستلحقه حسب تصورات ذلك “الديكتاتور” من ضرر بالصين، ولا هو، أي بايدن، أعطى حاكم الصين صك براءة تجعله بمثابة الذي يطمح للسير في ركاب الحكام الديمقراطيين.