الفلسطينيون من الهبّة الشعبية إلى الهبّة الصاروخية ثم إلى أين؟
ماجد كيالي
طوال تاريخ كفاحهم الطويل والمضني والصعب سلك الفلسطينيون كل الطرق من أجل فرض ذاتهم، واستعادة حقوقهم كشعب، ويأتي ضمن ذلك الانتفاضات والهبّات الشعبية، والكفاح المسلح، على طريقة حرب العصابات والقواعد الثابتة (كما في تجربة الخارج)، وصولا إلى خطف الطائرات، والعمليات التفجيرية (بخاصة كما حصل إبان الانتفاضة الثانية 2000 ـ 2004)، ومن ثم الحرب الصاروخية، التي تم اعتمادها بعد انسحاب إسرائيل الأحادي من قطاع غزة (2005)، وهيمنة حماس عليه منذ العام 2007، على ما نشهد هذه الأيام.
وطوال عقود أثبت الفلسطينيون أن روح الكفاح ساكنة في قلوبهم، وأبدوا دوما استعدادهم العالي للتضحية، لكن مشكلتهم ظلت تكمن في افتقادهم لاستراتيجية كفاحية، أو عسكرية، واضحة، وملائمة، وفي افتقادهم لإدارة ناجحة لمواردهم وطاقاتهم البشرية، كما افتقادهم للمعطيات العربية والدولية المواتية، التي تمكّنهم من استثمار تضحياتهم وبطولاتهم، يفاقم من ذلك، طبعا، سيادة العفوية والتجريبية في خوضهم أشكالهم الكفاحية، وتخبطهم في خياراتهم السياسية، إذ أن كل خيار يفترض أدوات أو طرق نضالية معينة.
هكذا، فبعد انتهاء تجربة الكفاح المسلح من الخارج، وتحول ثقل العمل الوطني الفلسطيني إلى الداخل (بعد غزو لبنان 1982)، باتت ثمة أشكال معينة يحاول فيها الفلسطينيون التعبير عن ذاتهم، وعن إصرارهم على رفع ثمن الاحتلال، واستعادة حقوقهم، يمكن ملاحظتها، أولا، في الانتفاضات والهبّات الشعبية، إلا أن هذا الشكل بات ضعيفا، فبعد الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، التي غلب عليها طابع العمليات التفجيرية، خفّفت إسرائيل كثيرا من نطاق احتكاكها بالفلسطينيين، عبر بناء الجدار الفاصل، وإنشاء طرق خاصة (الأنفاق والجسور) لعزل الفلسطينيين عن الإسرائيليين المستوطنين. ولعل هذا الفصل، الذي جاء تحت شعار “نحن هنا وهم هناك”، يفسر تكرار هذا الشكل الكفاحي في القدس، فقط، على ما جرى بخاصة في الأعوام 2015 و2017 و2018، وعلى نحو ما شهدنا في هبّة القدس مؤخرا، بحكم وضعية القدس الخاصة وبحكم الاحتكاك بين الإسرائيليين والفلسطينيين في تلك المدينة، مع مكانتها التاريخية، والرمزية، والدينية، والوطنية.
ثانيا، بعد انسحاب إسرائيل من غزة، وهيمنة حركة حماس عليها كسلطة، اشتغلت تلك الحركة على مراكمة أسباب القوة الخاصة بها، رغم الحصار الإسرائيلي، بحيث توفر لها قوة صاروخية منظمة، ومؤثرة (كما تبين في المواجهات الدائرة مؤخرا)، وهو السلاح الذي باتت تستخدمه لفرض مكانتها، وتعزيز دورها، إزاء إسرائيل، وإزاء السلطة في رام الله. ثالثا، ثمة شكل جديد/قديم تمثل في العمليات الفردية، من خلال الهجمات بالسكاكين (كما حدث في هبّة 2015)، أو الدهس بالسيارات، أو إطلاق الرصاص، وهي عمليات تأتي كردة فعل فردية، وكرفض طبيعي للاحتلال والظلم وانتهاك الكرامة والمقدسات، لكنه يعبّر، أيضا، عن الفراغ القيادي الحاصل، كما يعبّر عن ضمور الفصائل الفلسطينية.
ضمن ما سبق تمكن قراءة هبّة القدس الشعبية المجيدة، والتحول نحو إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، الأمر الذي أخذ الوضع إلى مواجهة عسكرية مفتوحة، كشفت عن استعداد كبير من حركة حماس لهكذا لحظة، وهو ما تبين من انتظام الضربات الصاروخية التي وجّهتها إلى مختلف المدن الإسرائيلية، وعلى مدار عدة أيام، طبعا مع ملاحظة أنه لا يوجد أيّ تناسب بين حجم القصف الصاروخي وقوته وتأثيره من قبل حماس في غزة، في مقابل القصف الصاروخي الإسرائيلي إذ الأخير أقوى وأكثر تدميرا بما لا يقاس.
هكذا أضحت غزة في مواجهة حرب رابعة، تضاف إلى سلسلة الحروب الوحشية والمدمرة التي كانت تعرضت لها منذ سيطرة حركة حماس عليها (2007)، الأولى، بين الـ27 من ديسمبر 2008 والـ19 من يناير 2009، واستمرت 23 يوما، وذهب ضحيتها أكثر من 1436 فلسطينيا، وإصابة أكثر من 5400 آخرين، مقابل مصرع 13 إسرائيليا بينهم 10 جنود وإصابة 300 آخرين. والثانية، بين الـ14 من نوفمبر والـ21 من نوفمبر 2012، وقد استمرت ثمانية أيام، وذهب ضحيتها 155 من الفلسطينيين والمئات من الجرحى مقابل ثلاثة إسرائيليين. أما في الحرب الثالثة، التي استمرت 50 يوما، بين الـ8 من يوليو والـ29 من أغسطس 2018، فقد ذهب ضحيتها 2174 من الفلسطينيين مقابل مقتل 70 إسرائيليا منهم 64 جنديا. في المحصلة ثمة أكثر من أربعة آلاف شهيد من الفلسطينيين، وعشرات الألوف من الجرحى والمعاقين، ناهيك عن دمار هائل لبيوت وممتلكات، مقابل مصرع 86 إسرائيليا، في ستة أعوام (2008 ـ 2014).
في السياق، أي في تذكر تلك الحروب والمواجهات الساخنة، يمكن الحديث، أيضا، عن تجربة الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، التي شكلت أعلى ذروة في صراع الفلسطينيين ضد إسرائيل، وقد نجم عنها مصرع 1060 إسرائيليا في أربعة أعوام، مقابل 5000 من الفلسطينيين من ضحايا تلك المرحلة.
الآن، وعلى اعتبار أن الحرب مازالت دائرة، ويصعب التكهن بتطوّراتها ونتائجها وتداعياتها، فإن ذلك لا يمنع من طرح بعض الأسئلة، أو الملاحظات، وأولها، ما تأثير الانتقال من الهبّة الشعبية إلى الصراع المسلح، لاسيما على شكل صواريخ مقابل صواريخ، على الحركة الوطنية الفلسطينية؟ وثانيها، هل إن ذلك التحول سيضعف من تفاعل فلسطينيي 48، والذي هو أحد أهم ثمار هبّة القدس، وأحد أهم تطورات الكفاح الفلسطيني منذ عقود، بانتقالهم من هامش العملية الوطنية الفلسطينية، على اعتبار خصوصيتهم كمواطنين في دولة إسرائيل، إلى قلب العملية الوطنية الفلسطينية، بدلالة انتمائهم لشعبهم، وفي تأكيد على وحدانية الشعب والقضية والأرض والرواية التاريخية، أم أنه سيضعف ذلك المسار؟ وثالثها، هل ستؤدي هذه الحرب إلى خلق معادلات جديدة لصالح الفلسطينيين، ولاسيما لصالح رفع الحصار عن مليوني فلسطيني في غزة، أي هل سيتمكن الفلسطينيون هذه المرة من استثمار تضحياتهم وبطولاتهم، أم لن يسمح لهم بذلك كما في المرات السابقة؟ ورابعها، ما تأثير ذلك على إسرائيل، هل ستعزز التيارات العنصرية والمتطرفة أم بالعكس؟ وخامسها، ما أثر هذه الحرب على واقع الحركة الوطنية الفلسطينية، والنظام السياسي الفلسطيني، لاسيما على مكانة كل من الحركتين الرئيستين/السلطتين (فتح وحماس).
أما من جهة القيادة الفلسطينية الرسمية، وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح، فعلى الأرجح خسرت كثيرا من مكانتها وصورتها إزاء شعبها، مقارنة بحماس، أولا، بتهرّبها من الانتخابات. وثانيا، بتملصها من مسألة الوحدة. وثالثا، لضعف موقفها في هبّة القدس. ورابعا، بمبادرة “حماس” مصارعة إسرائيل. وخامسا، بخسارتها وحدة فتح، وخسارة أبومازن لمكانته الرمزية كمرجعية وكقيادة لفتح وللفلسطينيين.