اللاّجـئون والعنصريّة
عبد الإله بلقزيز
يقال إنّ موجات اللّجوء من أوكرانيا، للسّكّان الهاربين من هول المعارك، نحو پولونيا وبلدان أوروبا الأخرى وروسيا هي أضخم حركة لجوء داخل أوروبا منذ الحرب العالميّة الثّانيّة.
وقد يكون ذلك صحيحاً إنْ تعلَّق الأمر في هذا التّقدير بأوروبا حصراً، وإلاّ فإنّ أعداد اللاّجئين من العراق وسوريّة، هرباً من الحرب، كانت أكبر بكثير وإنْ لم تَـسْتَـرْع أوضاعُ هؤلاء اللاّجئين من «المجتمع الدّوليّ» عُـشُـرَ اهتمامه بلاجئي أوكرانيا!
دَلَّـتْنا مأساةُ اللّجوء الأوكرانيّ على وجوهٍ من القيم الغربيّة المكينة في النّفوس والسّياسات خِلْنا، في أزمنةٍ من الوهم مضت، أنّ أوروبا والغرب تحرّرت منها بـأثرٍ من ثقافةٍ إنسانويّـة درجْنا على نسبتها إليهما، واجتهدنا في أن نَـمْتَـح منها ونستبطنها في التّفكير والأفعال. لكنّا اكتشفنا مرّةً أخرى أنّ الإنسانويّة الغربيّة المزعومة قشرةٌ أو طلاء خارجيّ يخفي نقيضاً لها يعتمل في جوف مجتمعات الغرب وأجهزة دُوَلِـه وثقافة نُخبه وجمهوره. وإنْ نحن أحْسَـنّا الظّنّ به قلنا إنّها الإنسانويّة التي لا تُفصح عن نفسها سوى تجاه الأوروبيّ أو الغربيّ أو الرّجل الأبيض… وهو وحده- في عُـرْف نزعة التّمركز الذّاتيّ الغربيّ- الإنسانُ أو من يستحقّ أن يحمل هذه الماهية؟
لم يقصّـر الأوكران الغربيّون في كيْل الازدراء بمواطنيهم الأوكران الشّرقيّين حـطّاً منهم واستصغاراً لهم؛ فقط لأنّهم ليسوا أوروبيّين، مثل الأوّلين، بل من أصول روسيّة! ولقد كان ذلك الازدراءُ نفسُه ما جـرَّأَهم عليهم فانغمسوا في أفعال العـداء لهم والتّنكيل بهم، الأمر الذي استجرّ حرباً أهليّةً وانفصالاً من جانب سكان حوض دونباس في جمهوريّتين. وقد شهدت عنصريّـةُ أوكران الغرب على اندفاعةٍ كبيرة منذ استقلال أوكرانيا، عقب انحلال الاتّحاد السّوڤييتيّ، لكنّ طفْرتَها اقترنت بصعود جماعات النّازيّين الجُدد التي تبجّل العرق الأبيض، وتُعالن الرّوس كُرْهاً واحتقاراً، وتقوم بعمليّات تطهير عرقيّ في شرق أوكرانيا.
من البديهيّ أن تُفصح مثل هذه العنصريّة البغيضة عن نفسها تجاه الأجانب، إذا كانت قد أجرت تمرينَها الابتدائيّ على مواطنين أوكران آخرين. وهذا، بالذّات، ما أتت وقائع إجلاء السّكان من المدن إلى لڤيـڤ في الغرب تشهد عليه. وقف على ذلك مراسلو كبرى وسائل الإعلام في عين المكان وهم يعاينون كيف يُسْتثنى الأفارقة والعرب والآسيويّون، مثلاً، من عمليّة الإجلاء نحو مراكز تجمّع اللاّجئين في غرب البلاد، تمهيداً لانتقالهم إلى بلدان شرق أوروبا. أمّا مَن تدبَّر أمْـرَ وصوله إلى الحدود مِـن الأجانب المستَبعدين، فلا يملك فرصتَه للمغادرة على واسطة نقلٍ، مثل القطارات والحافلات، لأنّ الأولويّة في ذلك للأوكران. هكذا يكون المنع بالقـوّة من المغادرة مصيره أمام عدسات كاميرات إعلام العالـم كلّـه.
مع العنصريّة الأوروبيّة الأوكرانيّة، قُسِّم المقيمون في البلاد إلى فسطاطين: أحدهما أهـلٌ لأن يَـفِـرّ بجلده من الموت ولأن يجد من يستجيره في محنة الحرب والاقتلاع؛ وثانيهما يستوي وجودُهُ ولا وجودُه، لأنّه لا يستحقّ الحياة! هكذا أصبح اللّجوء امتيازاً، وأصبح مَن يُسْمَح له به ذا حُظوة! ولقد حُرِم الأجانب حتّى من حقّ النّظر إليهم بوصفهم ضيوفاً على البلاد، محايديـن في الحرب، لا ناقة لهم ولا جمل فيها. بل حتّى من أبدوا منهم التّعاطف مع الشّعب الأوكرانيّ عوملوا بمثل ما عومِل به الآخرون من استثناءٍ ومن استبعادٍ من حقٍّ بدائيٍّ يملكه حتّى الحيوان في الفرار من الخطر، واللّجوء إلى المكان الآمن!
ولكنّ الأوروبيّين تفوّقوا على الأوكران وعلى أنفسهم في كشف ألسنتهم غطاءَ العنصريّة البغيضة في دواخلهم وهو يتحدّثون عن اللاّجئين الأوكران إلى ديارهم. يتكـرّر التّشبيه التّمييزيّ بين لاجئي أوكرانيا ولاجئي العراق وسوريّة وأفغانستان على ألسنة ساسةٍ غربيّين من طينة رئيس وزراء بلغاريا، الذي يرى فيهم أنّهم «ليسوا اللاّجئين الذين اعتدنا عليهم»، بل هم «أوروبيّون وأذكياء ومتعلّمون»؛ ورئيس لجنة الشّؤون الخارجيّة في الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة، الذي يعتقد أنّ محنة الأوكران اللاّجئين «ستكون، من غير شكّ، هجرة عالية القيمة وفيها مثقّفون»؛ ناهيك بجوقة المراسلين العنصريّين الذين فضحتهم تقاريرهم عن اللاّجئين، من أمثال شارلي داغاتا – مراسل سي بي إس نيوز الأمريكيّة -؛ وفيليب كورب على قناة BFM الفرنسيّة؛ ومراسل شبكة الـ بي بي سي في أوكرانيا؛ وپيتر دوبي مذيع قناة «الجزيرة الإنڱليزيّة»؛ والبريطانيّ دانييل هنان في مقال في صحيفة «التّلغراف»… إلخ، وقد أجمعوا على «الفارق الحضاريّ» بين لاجئي أوكرانيا الأوروبيّين ولاجئي البلاد العربيّة والإسلاميّة والأفريقيّة وكأنّهـم يُرَتِّلـون حقائقَ وبديهيّـات!!!
ولأنّ «مصائب قـومٍ عند قـومٍ فوائدُ»، أصبحت مأساة اللاّجئين الأوكران غُـنْماً يُغْـتَـنَم وصَيْداً يُـقْتَنص من الأوروبيّين. وخلافاً للأبواب والحدود الموصَـدَة في وجه اللاّجئين العراقيّين والسّوريّين واللّيبيّين، وموجات الأفارقة المتدفّقين، بقوارب الموت، على شواطئ المتوسّط الشّماليّة، فُتِحت أبواب أوروبا على المصاريع لاستقبال الأوكران من ذوي الجلدة: لِـغَـوْثِـهِـم… ولاستغلالهم في آن. إنّها ثقافة تُجّـار الحروب!