المعارضة في تونس الشعارات تتغير لكن الانتهازية مقوم ثابت
مختار الدبابي
رغم مرور زمن على الانفلات الكبير للديمقراطية في تونس، وزيادة عدد الأحزاب المعترف بها قانونيا إلى المئات، فإن التونسيين ظلوا ينظرون إلى أغلب تلك الأحزاب بنفس العين، ويرون فيها أحزابا لا تتجاوز الشعارات والمزايدات والركوب على الأحداث لإظهار النزعة الثورية والنزاهة.
ما الذي يمنع هذه الأحزاب من أن تتغير وتصبح أحزابا واقعية براغماتية تبحث بالدرجة الأولى عن خدمة الناس في معاشهم بدل الشعارات الكبيرة عن الثورة والديمقراطية وحشر الأنوف في أزمات الخارج. ما الذي يمنع الأحزاب من أن تقيم داخلها قطيعة على شاكلة قطيعة الخامس والعشرين من يوليو التي أحدثتها الإجراءات الاستثنائية لقيس سعيد مع منظومة الفساد والفوضى التي عاشتها البلاد في السنوات العشر الأخيرة، وهي منظومة حكم الأحزاب.
ورغم الصدمات التي تلقتها أغلب الأحزاب بتراجع نتائجها في انتخابات 2014 و2019، فإنها تلازم نفس الوتيرة وبنفس الوجوه والأفكار لعقد كامل وكأنها لا تمتلك قيادات أخرى ولا مؤسسات يمكن أن تستجوب القيادة وتحمّلها مسؤولية الفشل.
الغنوشي أو لا أحد
أكثر الأحزاب التي تحتاج إلى 25 يوليو خاص بها هي حركة النهضة التي خسرت منذ انتخابات 2011 أكثر من نصف جمهورها، كما فقدت قيادات بارزة في صفوفها إما في شكل انسحاب اليائسين أو في شكل استقالات علنية فردية أو جماعية. والسبب المحوري في أزمتها هو قضية القيادة واستمرار راشد الغنوشي على رأسها ما حال دون مراجعات نوعية لمسارها بعد 2011.
وتقول قيادات مختلفة ممن أعلنوا استقالاتهم إن الغنوشي لا يتمسك فقط بالقيادة لأجل أن يظل في الواجهة خاصة مع تقدمه في السن، ولكن الأسوأ أنه يريد أن يضع بصماته المباشرة في كل الخطوات الكبيرة والصغيرة التي تهم الحركة، فهو من يفاوض ويعقد التوافقات من وراء الستار كما حدث في اتفاق باريس 2013 مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، والذي علمت به القيادات من وسائل الإعلام.
كما أن خطوات رئيس الحركة لا تناقش داخل مؤسسة مجلس الشورى التي يفترض أنها المرجع الأكبر الذي يحاسب الغنوشي وأعضاء فريقه التنفيذي ويرسم لهم السياسات الكبرى. لكنها ظلت مؤسسة هامشية بسبب نفوذ الغنوشي داخل، وخاصة لأن أغلب الممثلين فيها قيادات تاريخية متفرغة وتحصل على رواتب من الحركة، ولا تستطيع أن ترفع عصا الطاعة في وجه من يوفر لها الأموال.
وتعتقد أوسط مقربة من النهضة أن الحركة فوتت على نفسها فرصا كثيرة لإحداث تغيير كبير في استراتيجيتها يخرجها من دائرة الإسلام السياسي المحكومة بعقلية الهيمنة والتمكين إلى حزب سياسي مدني براغماتي يضع هدفا له المشاركة في السلطة بدور متوازن لا يثير مخاوف الآخرين من ناحية، ومن ناحية أخرى يتيح له العمل داخل المؤسسات وامتلاك الخبرات والأفكار العملية التي يحتاجها الناس في حياتهم، ولا يورط نفسه في مهام احتكار السلطة أو بناء علاقات خارجية متشعبة وذات مخاطر استراتيجية على هويته كحزب محلي.
وقد كانت فكرة الحزب تستهوي غالبية القيادات التي حضرت المؤتمرَيْن التاسع والعاشر للحركة، وهدفت إلى الفصل بين الحركة كمشروع جامع (دعوي فكري وبعمق إسلامي منافح عن الشريعة) مثير للشكوك، وبين الحزب الذي يراد له أن يتحرر من محاميل الحركة التاريخية، حزب غير مطوق بماض ولا التزامات خارجية، وهدفه المشاركة في الحياة السياسية.
طبعا الفكرة أجهضت لاعتبارات كثيرة أهمها أن فكرة الفصل انتهازية وهي امتداد لأسلوب التقية وتعدد الوجوه، لكنها كانت ستوفر الفرصة لصراع داخل الحزب قد يطوره لأن يكون حزبا حقيقيا شبيها بما طرحه منذ أيام القيادي المستقيل سمير ديلو الذي قال إنه يتطلع إلى تأسيس حزب جديد دون مرجعية دينية وذي وطنية، على أن يكون شبابيا وتترأسه امرأة ويحافظ على الهوية الوطنية.
وأضاف ديلو في تصريح لوسائل إعلام محلية أن “الحزب يمكن أن يضم المستقلين من حركة ‘النهضة’ ومجموعة من الأصدقاء”، مشيرا إلى أنه “حزب لا يسعى للجدل حول التعيينات والتسميات، بل يسعى لتغيير الأوضاع نحو الأفضل”.
وتقول الأوساط السابقة إن عقد المؤتمر الحادي عشر، الذي تأجل مرارا ضمن مناورات رئيس الحركة، لم يعد مهما طالما أن من بقي من القيادات لا يمانع في أن يمدد الغنوشي ولايته على رأس الحركة مرة أخرى أو مرتين، ولا يجد ضيرا في أن يسير وراء سياساته حتى تلك التي قادت الحركة إلى الصدام مع الشارع وتحميلها مسؤولية فشل الثورة وحكوماتها منذ 2012.
وترى هذه الأوساط أن الفرصة تبدو قد ضاعت تماما على بريسترويكا داخل الحركة إلا إذا حصلت معجزة وأعلن الغنوشي عدم ترشحه للمؤتمر وقدم تطمينات لمن غادروا بالعودة وإدارة حوار محايد يفضي إلى تفاهمات كبرى بين فيالق المختلفين وأجنداتهم المتناقضة.
أحجام صغيرة وأوهام كبيرة
قاد النظام الانتخابي الهجين الذي يمنع أي حزب من الحصول على أغلبية مريحة في البرلمان إلى الرفع من قيمة الأحزاب الصغيرة والمرشحين المستقلين. وبفعل هذا الواقع المفارق نشطت أحزاب الوسط في البحث عن توسيع مكاسبها بقطع النظر عن حجم تمثيلها، وساهمت بشكل مباشر في الأزمة التي حصلت في البلاد خاصة بعد انتخابات 2019.
ومن المهم الإشارة إلى أن أحزاب الوسط أجسام ومشارب مختلفة؛ فهناك تيار الوسط الاجتماعي الذي يمثله التيار الديمقراطي، والحزب الجمهوري، وحزب التكتل من أجل العمل والحريات، وهناك أحزاب وسط ليبرالية، كما توجد حركة الشعب القومية الناصرية. وبقطع النظر عن المدلولات الفكرية والأيديولوجية يمكن النظر إلى هذه الأحزاب من بوابة علاقتها بالرئيس قيس سعيد منذ حكومة إلياس الفخفاخ مرورا بحكومة هشام المشيشي ووصولا إلى الموقف من الخامس والعشرين من يوليو وما بعده.
في الفريق الأول من أحزاب الوسط نجد الأحزاب التي أطلق عليها في 2020 اسم أحزاب الرئيس، والتي عُرفت بموقفها الداعم له في حكومة الفخفاخ وما تلاها من صراع له مع حركة النهضة، وخاصة مساندتها لإجراءات الخامس والعشرين من يوليو ثم التراجع عن ذلك بدرجات متفاوتة.
التيار الرئيسي في هذا الفريق هو التيار الديمقراطي الذي صعد بقوة في انتخابات 2019 كبديل وسطي لفشل التحالف الحكومي بين حركة النهضة وحزب نداء تونس.
لكن بدل أن يحول قوته الصاعدة إلى عنصر تأثير إيجابي حوّلها إلى ورقة لي ذراع للحصول على مكاسب في حكومة الفخفاخ (عدد من الوزارات بيد الأمين العام السابق محمد عبو بداعي مقاومة الفساد)، ومن بعدها عاد التيار الذي كان أكبر الداعمين لكل خطوات قيس سعيد لتغيير وجهته، وأصبح صوته الأعلى في نقد قيس سعيد ووصفه بالانقلابي والفاشل.
ويقول مقربون من التيار الديمقراطي، الذي شهد موجة انشقاقات، إن فرصة التغيير الداخلي تبدو صعبة في ظل غياب مؤسسات فاعلة داخل التنظيم الذي ارتبط صعودا ونزولا بمواقف القياديين محمد عبو وسامية عبو، خاصة معارضتهما لحركة النهضة، مشيرين إلى أن صدامية المواقف مع قيس سعيد قد لا تحقق نفس المكاسب التي تحققت مع النهضة، لاسيما أن التيار أظهر مواقف داعمة كليا للرئيس سعيد الذي يدافع عن أفكار اجتماعية في نفس ملعب الحزب، وأن الخلاف قد يهدد بسحب جزء من قاعدته.
والأمر نفسه بالنسبة إلى حركة الشعب التي تماهت مع قيس سعيد بشكل تام في المواقف، وسعت لأن يكون صوتها أعلى من كل أصوات أنصاره، لكنها حين سعت للتراجع وجدت صعوبة حتى بين أنصارها، فباتت تكتفي بملاحظات خفيفة في شكل نصائح عن ضرورة الشراكة والاستماع للأحزاب، خاصة أن القطيعة قد طالتها كحزب يسمي نفسه حزب الرئيس تماما مثلما طالت خصومه وخصومها.
إن الحديث عن الخامس والعشرين من يوليو داخل حركة الشعب يبدو صعبا ومستبعدا لأنها حركة أيديولوجية متماسكة تشبه إلى حد كبير تماسك الحركات الإسلامية في نسختها الإخوانية الأولى القائمة على السمع والطاعة والانتشار بين الناس من أجل التبشير بالأفكار والترويج للحركة كفرقة ناجية تمتلك الحلول والبدائل.
ستحتاج حركة الشعب إلى الكثير من الوقت لأجل أن يتحول النقد الداخلي إلى فاعل في تغيير وضعها من بوابة التجربة التي تفضي إلى اكتشاف محدودية التأثير بالنسبة إلى المبادئ في مسار سياسي يقوم على البراغماتية والمناورة والضرب تحت الحزام، وربما يبدأ هذا المنعطف إذا لم ينته رهانها كليا على قيس سعيد إلى نتائج ملموسة لأنصارها.
موسي واختبار الحقيقة
نجحت عبير موسي في أن تكون الرابح الأول من بين مجموعات الوسط الليبرالي مثل تحيا تونس وقلب تونس. وفيما انتهى تحيا تونس الذي يرأسه رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد بشكل عملي بسبب رخاوة مواقفه، فلا هو مع الرئيس سعيد ولا هو ضده، فإن قلب تونس يبدو قد انتهى مع النهاية الدراماتيكية لرئيسه نبيل القروي الذي فر إلى الجزائر واعتقل هناك ثم خرج ولا يعرف هل فر إلى إسبانيا كما تقول تقارير أم مازال في الجزائر.
ما تختلف فيه عبير موسي عن المجموعات الليبرالية الأخرى أنها وقفت بقوة ضد حركة النهضة؛ لم تهادنها، بل حولتها إلى برنامج مرحلي انتهى بنجاح، وهي تقول هذا بكل وضوح وتعتبر أن الفضل في صعود قيس سعيد بعد الخامس والعشرين من يوليو يعود إليها.
لكن الانتشاء بهزيمة النهضة ودفعها إلى الخروج من السلطة يضعان حزبها الدستوري الحر في مواجهة مباشرة مع قيس سعيد، إذ لم يقبل الحزب أن يقف عند مهمته في إسقاط النهضة والبرلمان وحكومة المشيشي بل يريد أن يستمر في ثوب المرشد الذي يوجه النصائح لقيس سعيد ويسلط عليه الضغط باستمرار، وهو أمر لا يمكن أن يتحمله الرجل الذي عُرف هو أيضا بالعناد.
وبات قيس سعيد يوجه رسائل مباشرة إلى الأحزاب والشخصيات التي دعمته ثم تراجعت ويرسل إشارات دقيقة تجعل المتابع يعرف من الشخص المقصود بالحديث، وهو أمر قد يتكرر مع عبير موسي. ولا شك أن الصدام لن يكون في صالحها كما أن الظروف تغيرت والإعلام الذي كان إلى جانبها في معركة إضعاف النهضة بات في الصف المقابل، ويمكن أن ينقلب بدوره عليها.
ويقول المراقبون إن الاستهداف المباشر الذي يصدر عن موسي تجاه قيس سعيد بوصفه رئيس السلطة القائمة واتهامه بالعودة إلى “مربع التعيينات بالولاءات والمحاباة والتحكم في مفاصل الإدارة”، واعتبار ذلك “تكريسا للفساد السياسي والإداري وجب وضع حد له”، يجعل زعيمة الدستوري الحر آليا في صف خصوم قيس سعيد، وهي متحالفة ضرورة مع حركة النهضة في هذه المرحلة.
ويعتقد هؤلاء المراقبون أن الدستوري الحر يحتاج بدوره إلى مراجعات سياسية تقوم على التفريق بين التكتيكي والاستراتيجي وتبعده عن الارتهان لفكرة الزعامة التي قد تدفعه إلى أن يعيش ظروفا شبيهة بظروف نداء تونس الذي تحول إلى شظايا مع رحيل زعيمه الباجي قائد السبسي.
لن يفيد مختلف الأحزاب الهروب إلى الأمام والاكتفاء بالسماع لصوت الزعيم والقائد، وعليها أن تحدث بداخلها انقلابا يوقف الأمراض القديمة ويؤسس لمرحلة جديدة على قاعدة المؤسسات القوية والمرنة واعتماد المراجعات كأرضية تطوير دائمة، خاصة أن فكرة الزعامة التي ارتبطت بالحرب الباردة تتجه إلى الانقراض في التجارب الديمقراطية، ووجودها في بلد أو حزب هو علامة على أنهما يسيران في الطريق الخطأ.