المقاومة والاحتلال والشهداء في الخطاب المصري
محمد أبو الفضل
لم يمنع قيام القاهرة بالوساطة بين إسرائيل وحركة حماس لوقف إطلاق النار استخدام مفردات لها دلالة في الخطاب الإعلامي المصري، فقد تصدر مانشيت جريدة الأهرام الرسمية يوم الجمعة عنوان بارز قال: إسرائيل تستهدف المنشآت الحيوية في غزة وارتفاع عدد الشهداء إلى 83. وفي السطر التالي ذكرت الصحيفة ذاتها: الاحتلال يستعد لاجتياح القطاع والمقاومة تطلق 1500 صاروخ.
تكررت العبارات الساخنة التي تؤكد أن هناك عدوانا سافرا على الشعب الفلسطيني، وتلاشت من جميع وسائل الإعلام المصرية الكلمات التي تحمّل حركة حماس وصواريخها مسؤولية ما يجري من ضحايا، بل شهد الأداء العسكري الذي وصل إلى بعض البلدات الإسرائيلية ثناء بين السطور.
وقد أثارت كلمات الشهداء، الاحتلال، المقاومة، استغراب البعض ممّن لا يعرفون مصر عن كثب، وبدت هذه النوعية من المفردات غير مألوفة بالنسبة إليهم، حيث تصوروا أن العلاقة المتوترة مع حماس لن تسمح باستخدام كلمات لها مدلول سياسي في الوجدان العربي، بل اعتقدوا أن القاهرة ستجد في القصف الإسرائيلي فرصة للتخلص من مخزون سلاح كتائب عزالدين القسام، الجناح العسكري لحماس.
يشير التغير في الخطاب الإعلامي إلى تغير مماثل في الأداء السياسي، ظهرت ملامحه على استحياء السنوات الماضية عبر استدعاء القضية الفلسطينية والتركيز على ثوابتها
من راودهم التقدير السلبي السابق أصيبوا بدوار سياسي عقب سماعهم رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية يردد في كلمة له بالدوحة، مساء الجمعة، “مصر وما أدراك يا إسرائيل من مصر”، في إشارة يمكن أن تفهم على وجوه متعددة، وتوحي في مجملها بأن العلاقة مع قيادة الحركة في المحطات الرئيسية تبتعد عن الحسابات الأيديولوجية، وتصل إلى مستوى مرتفع من الانسجام، بدليل أن القاهرة أكدت لتل أبيب أنها الضامن لالتزام المقاومة بوقف إطلاق النار.
تلعب الجغرافيا السياسية دورا مهما في علاقة مصر بالقضية الفلسطينية، فتاريخيا لم تتخل عنها، لأنها جزء من أمنها القومي، وكانت عنصرا فاعلا في جميع الجولات العسكرية التي خاضتها الدول العربية في مواجهة إسرائيل، حتى مشروع السلام الذي تبنته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر وضع القاهرة هدفا أساسيا له كي تخرج مصر من معادلة الصراع معها.
مضت أربعة عقود خرجت فيها مصر من الصراع المباشر مع إسرائيل، لكنها لم تتنصل من مسؤوليتها حيال القضية الفلسطينية، وابتكرت لنفسها منهجا وصف بـ”السلام البارد” لتخطّي العقبات التي وضعتها التسوية السياسية في طريقها.
تمكنت الإدارة المصرية الراهنة من تغيير التوازنات العسكرية في سيناء، بما قلّص من مساحة الفراغ الممتد في كثير من المناطق، ما أثار غضب قيادات إسرائيلية عدة، لأن الترتيبات الأمنية الجديدة التي تمت بموجب الحرب التي تخوضها مصر ضد تنظيمات إرهابية في سيناء رسخت لواقع قد يمثل إزعاجا لإسرائيل لاحقا.
عندما تشددت إسرائيل في استمرار قصفها على قطاع غزة ألمحت القاهرة إلى إمكانية إعادة النظر في بعض الملفات بين البلدين، في إشارة تعني أن التصرفات التي تقوم بها قوات الاحتلال يمكن أن تكبّد الدولة العبرية خسائر فادحة على المستوى الاستراتيجي، وبدلا من البحث عن اتفاقيات سلام مع دول بعيدة عن المواجهة قد تخسر دولا قريبة منها.
ينطوي هذا الخطاب على مجموعة من الرسائل، أهمها أن مصر لن تقف صامتة أمام الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، وظهرت تجليات هذا المحتوى في الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي تبذلها القاهرة مع جهات مختلفة داخل مجلس الأمن وخارجه، لحض القوى المؤثرة على التعجيل بإصدار قرار دولي يجبر حكومة بنيامين نتنياهو على القبول بوقف فوري لإطلاق النار.
ظهر التلاحم المصري في بعض التصرفات الرمزية مع المقاومة، خاصة تلك المتعلقة بفتح معبر رفح وتسهيل دخول الطواقم الطبية وخروجها من سيناء إلى غزة والعكس، وتوفير خدمات علاجية للمصابين جراء القصف الإسرائيلي، وهي إشارة تعزز التلاحم مع الشعب الفلسطيني، وتمحو دعاية سوداء أوحت بغلق معبر رفح في وجوه الجرحى، وأن مصر تخشى من هجرة جماعية من القطاع إلى سيناء.
تتعامل مصر هذه المرة مع الأزمة برشاد سياسي وأمني، جوهره الوقوف في صف الشعب الفلسطيني، وتضييق هامش الحركة أمام إسرائيل ومنعها من ترسيم حركة الأطراف الإقليمية بالطريقة التي تريحها وتضرّ بالأمن القومي العربي.
تجد القاهرة في ما يجري من تطورات عسكرية فرصة لتأكيد محورية دورها الإقليمي، والذي حاولت بعض الدول اختطافه، وسعت دول أخرى إلى تغيير القواعد العربية في الصراع مع إسرائيل من خلال توطيد قنوات التعاون معها، والقفز على الجغرافيا السياسية التي منحت مصر دورا مركزيا في حالتي الحرب والسلام.
أعادت الأعمال العسكرية القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وربما تضعها ضمن أولويات المجتمع الدولي بعد أن توارت خلال الفترة التي شهدت فيها المنطقة صراعات عديدة، من سوريا والعراق إلى اليمن وليبيا، الأمر الذي يمنح فكرة العودة إلى طاولة المفاوضات قبلة حياة، في ظل اتساع نطاق التعاطف مع الشعب الفلسطيني.
احتاجت مصر نحو عشر سنوات كي تعيد ترتيب أوراقها الإقليمية، وتأكدت أن فترة انكماشها خلقت واقعا يصبّ في صالح دول الجوار العربي، بدءا من إسرائيل وحتى تركيا ومرورا بإيران وإثيوبيا، ومن الضروري استثمار جميع الأدوات لتصبح مصر لاعبا مهما وسط هؤلاء وتتصدى لمن يتجاوز دوره، لأن غيابها ضاعف من تطلعات الدول الأربع للسيطرة على مفاصل القرار العربي.
مضت أربعة عقود خرجت فيها مصر من الصراع المباشر مع إسرائيل، لكنها لم تتنصل من مسؤوليتها حيال القضية الفلسطينية، وابتكرت لنفسها منهجا وصف بـ”السلام البارد”
يشير التغير في الخطاب الإعلامي إلى تغير مماثل في الأداء السياسي، ظهرت ملامحه على استحياء السنوات الماضية عبر استدعاء القضية الفلسطينية والتركيز على ثوابتها ولمّ شمل الفصائل الوطنية، لكن لم ينتبه كثيرون إلى المعاني التي حملها ذلك في خضم الاندفاع وراء ما بدا كأنه خصومة أبدية بين القاهرة وحماس.
حافظت مصر على علاقة جيدة مع حماس، وغضّت الطرف عن الكثير من خطاياها لزعزعة الأمن في سيناء، وأدركت أنها قادرة على ضبط الأمور في غزة أو انفلاتها، ومن الواجب زيادة أطر التعاون والتنسيق معها، وتحويلها من حركة قد تزعزع الأمن في سيناء إلى وسيلة لضبطه عبر التوصل إلى حزمة من الاتفاقيات والتفاهمات الأمنية.
ناهيك عن إجراءات محكمة تحول دون حدوث مفاجآت غير متوقعة، وما جعل مصر أقل انزعاجا هذه المرة من حدوث طوفان بشري يقتحم حدودها أن سيناريو اقتطاع جزء من سيناء وضمه إلى غزة لتحويله إلى وطن بديل طواه النسيان بعد سقوط حكم الإخوان، ويجب أن تنصب الجهود نحو العدو الحقيقي للفلسطينيين.