النزوح السادس
نزحت “والحزن بعينيها” من شقتها في الطابق الرابع، في بناية سكنية في مركز مدينة خانيونس، إلى مواصي رفح، برفقة أولادها الثلاثة، بنت في الـ18، وولدين في الـ16 والـ12، تباعاً. كان ذلك في الأسبوع الأول من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ولم يمهلها أمرُ الإخلاء في حينه سوى ساعاتٍ قليلةٍ تمكّنت خلالها من تعبئة أربع حقائب بما لزم وتيسَّر من والوثائق والملابس والأحذية والأواني والغذاء والدواء. لكنّ حظَّها لم يكن الأسوأ بين حظوظ جماهير النازحين، إذ احتضنتها وأولادها الثلاثة إحدى العائلات الصديقة مدَّة شهور كثيرة، وتحديداً إلى أن اُجتيحت محافظة رفح في ربيع هذا العام (2024). ومن غرب رفح نزحت إلى حيّ الجنينة شرقها، ومنه بعد أسابيع قليلة إلى حيّ ميراج شرق محافظة خانيونس، ومنه إلى بيتٍ نصفِ مهدومٍ في بلدة بني سهيلة، في الجهة نفسها من المحافظة نفسها. ومع بدء العملية العسكرية الثانية شرق خانيونس، في يوليو/تمّوز الماضي، عادت لتسكن نفس البناية التي نزحت منها في ديسمبر الماضي، في شقَّةٍ متضررةٍ جزئياً، غير شقَّتها المهدومة بشكل شبه كلّي. وبعد ما يقل عن أسبوعَين، اضطرت إلى النزوح إلى مواصي خانيونس مدَّة أسبوع كامل. ومع بدء العملية العسكرية الثالثة شرق ووسط خانيونس، في الثامن من أغسطس/ آب الحالي، وصل إليها، كما وصل إلى عشرات الآلاف مثلها، أمرُ الإخلاء الفوري إلى غرب المدينة المنكوبة، حيث يقيم هناك في الخيام والداها المطلَّقَان وإخوانها الثلاثة وعمَّتها الأرملة، ولكنّها رفضت الاستجابة لأمر الإخلاء هذه المرّة بسبب فرط الإنهاك، عارفةً حجم المُخاطرة، طامعةً بحماية الله (كما قالت).
امرأة من خانيونس، في منتصف الأربعينات، منطلقة بعد طلاقها؛ امرأة عاملة ومتعلمة ومسؤولة عن إعالة وأمن ورفاه أولادها الثلاثة، في ظروف حرب إبادة ضدّ الإنسان والبنيان والمكان في قطاع غزّة، دخلت شهرها الـ11. منذ الشهر الأول للحرب، توقَّفت عن العمل وانقطع الراتب. ومثل الراتب انقطع التيّار الكهربائي، الذي يُغذِّي أجهزة التسخين والتبريد والإنارة وشحن بطاريات الهواتف النقالة، فتعلَّمت طرق الغسل والعجن والخبز البدائية. وعانت كثيراً، وأولادها الثلاثة، من العزلة ومن العتمة ومن برد الشتاء أولًا، وحرّ الصيف لاحقاً. كما عانت من المشاوير المُضنية لغرض شحن بطاريات الهواتف النقّالة من محطَّات شحنٍ تعمل بالطاقة الشمسية مُستحدَثة. و”تنازلت” بالطبع عن طموحها في دراسة الماجستير في مجال بناء المؤسّسات، تماماً كما “تنازلت” ابنتُها عن الالتحاق بأحد المعاهد لدراسة التصميم الغرافيكي، وتماماً مثلما “تنازل” ولداها، مثل ما يزيد عن 600 ألف تلميذٍ وتلميذةٍ، عن التعليم للسنة الدراسية 2023 – 2024 بكاملها. وأخذت مواردها المالية تجفّ شيئاً فشيئاً. وأخذت طاقاتها الجسدية والنفسية تتآكل بعد كل نزوح وآخر.
امرأة في منتصف الأربعينيات، برفقة أولادها الثلاثة، والحقائب الأربع والفراش، تلاحقها أوامر الإخلاء، فتنزح من منطقة إلى أخرى في كلٍّ من محافظتَي رفح وخانيونس. وفي كلّ محطَّة تعاني من النقص في الغذاء والماء والدواء. فرحت يوماً وفرح أولادها، حين عثرت على أجنحة من الدجاج لطبخة “مقلوبة” مُشتهاة. فاللحوم صارت نادرةً، وأسعارها صارت خياليةً. وخياليةً صارت أسعار مواد التنظيف والصابون والشامبو. فقد كلَّفتها قطعة الصابون وعلبة الشامبو النادرتَان ما يعادل 35 دولاراً أميركياً، وكانت مضطرة للشراء بعد أن صار شعر رأسها، وشعر رأس ابنتها، مثل أسلاك ليفة الألومنيوم (كما قالت). وقد حزنت كثيراً حين التهبت عيون ولديها، ولم تجد الدواء اللازم فاقتصر العلاج، حسب تعليمات طبيب عيون صديق، على كمّادات الماء الساخن. وحين هاجمهم الذبابُ الأزرق، الذي يعتاش على القمامة والمياه الآسنة، في مواصي خانيونس وجدوا المرهم الشافي في بسطةٍ للأدوية، بعد أن تعطَّلت الصيدليات عن العمل بسبب القصف ونقص الدواء. أمّا عن الشكوى من النقص في الملابس، خاصةً الداخلية منها، وغيابها من الأسواق، فالحديث يطول.
امرأة في منتصف الأربعينيات، عفيفة ومحتشمة، تنزح بحثاً عن المأوى الآمن من منطقة إلى أخرى في كلٍّ من محافظتي رفح وخانيونس، برفقة أولادها الثلاثة، وحقائبها الأربع والفراش. رفضت أن تعيش وأولادها في الخيام، كما يعيش كلٌّ من والديها المُطلَّقين وعمَّتها الأرملة وإخوتها الـ13، وعشرات الآلاف من النازحين، فلا خصوصية في الخيام. في زحام هذه الخيام انتشرت الأوبئة، وتراجعت الخصوصية، والقيم الأخلاقية. في الخيام المتلاصقة في المواصي وفي دير البلح يكثر الحديث، كما قالت، عن التحرّشات والاعتداءات الجنسية، كما يكثر الحديث عن آلاف حالات الزواج بدافع “السترة”. أمّا خارج الخيام، فقد انتشرت ظاهرة اللصوص الذين ينهبون المنازل التي أخلاها النازحون. حتّى المستشفيات، التي جرى إخلاؤها لم تسلم من هذا النهب، كما عرفنا وعرفت. كما لم تسلم تلك المرأة العفيفة والمحتشمة خلال رحلات النزوح المتتالية من إيحاءات جنسية، وصلت إلى حدّ التحرّش أحياناً. لهذا كلّه، أصرَّت على تجنب حياة الخيام، وإن كلّفها ذلك ما سبق ووفَّرته من أموال قبل الحرب، أموال صارت شحيحةً بسبب حرب ثأرية، مدمّرة ودموية، دخلت شهرها الـ11.
امرأة في منتصف الأربعينيات، عصرية وعصامية، من سكّان مدينة خانيونس جنوب قطاع غزّة. كانت تعمل قبل الحرب في إحدى المؤسّسات الدولية التي تُعنى برصد وتوثيق وتقييم الأضرار والخسائر الناجمة عن العملية العسكرية الإسرائيلية، التي حملت اسم “حارس الأسوار” في مايو/ أيّار 2021، وتلك الأضرار والخسائر التي نجمت عن اعتداءات السنوات السابقة. تعرَّفتُ إليها، وتعرَّفتْ إليّ، قبل تلك العملية بنحو عام، حين كان فيروس كوفيد 19 يُلقي بظلاله الثقيلة على العباد في فلسطين والعالم الواسع. وكانت قنوات التواصل المتاحة طريقاً تُعرّف الواحد منّا إلى الآخر، شكله ومكان سكنه وعمله ومستوى تعليمه ووضعه العائلي، طموحاته ومتاعبه، مستوى مناعته الذاتية وقدرته على الردّ على التحدّي. واستمر التواصل الدوري بيننا بعد ذلك. ومنذ بداية الحرب الوحشية، والمدمّرة للإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزّة، صار التواصل بيننا مكثَّفاً، باستثناء تلك الأيّام والأسابيع، التي عطّل فيها القصف عمل وسائل الاتصال. ورافقتُها وأولادها الثلاثة من محطَّة نزوح إلى أخرى، بعد إخلاء شقّتها في ديسمبر الماضي، تلك الشقَّة المُستأجَرة، التي قُصِفت ودُمّرت في اليوم التالي للنزوح الأول.
امرأة غزّية من خانيونس، في منتصف الأربعينيات، عصرية وعصامية، والدة لبنت وولدين، تنزح المرة تلو الأخرى من مكان إلى آخر في كلّ من رفح وخانيونس، سعياً وراء المأوى الآمن خارج خيام مئات آلاف النازحين. امرأة غزّية مقدامة تُرفع لها القبعات على ما تحمّلت من الأعباء والمشاقّ وتدبّرت من الأمور، في ظروف حرب كان المدنيون والأعيان المدنيّة وقودها الأساس. لقد كان لي شرف التواصل الدائم معها، جبر خاطرها ودعمها. حماها الله وحمى أولادها الثلاثة، وجميع أهلنا في قطاع غزّة، وأبعد من القادم من ويلات حرب إبادية دخلت الأسبوع الثاني من شهرها الـ11.