النهضة: الشهية السياسية المتعاظمة والثمار المسمومة
أمين بن مسعود
لحظة ترشيح مورو إلى الانتخابات الرئاسيّة، هي بالضبط، لحظة الالتقاء بين رغبة القواعد في إعلان التمكين، مع سعي القيادات إلى مزيد التمكّن من مفاصل الحياة السياسية في البلاد.
قرار حركة النهضة بدفع مرشّح من داخلها ممثلا في الأستاذ عبدالفتاح مورو، إلى الانتخابات الرئاسيّة، يعدّ قرارا استثنائيا في مسلكية الحركة التي كثيرا ما كانت تعتمد، وتنصح التنظيمات الإسلامية الأخرى، بالنأي عن كرسي الرئاسي الذي كانت تصفه بـ”عشّ الدبابير”، و”وادي ذئاب السياسة” داخل تونس وخارجها.
استثنائيّة القرار متأتية من أمرين اثنين. الأول كامن في انخراط النهضة بشكل مباشر في الانتخابات الرئاسية عبر ترشيح قيادي من داخلها، والثاني متجسد في شخصية عبدالفتاح مورو والتي تُعدّ مثار تساؤل وتجاذب سواء داخل المجالس القيادية للحركة أم صلب القواعد في علاقتها بالقيادات.
من الواضح أن قرار ترشيح مورو، يعبر عن شهية سياسية تتعاظم باطراد، على ضوء ضعف الأحزاب السياسية الأخرى وتفتتها، إضافة إلى التجربة الانتخابية البلدية التي وضعت النهضة على رأس غالبية المجالس البلدية في البلاد، وبوأتها لمنصب شيخ مدينة تونس، المنصب المحلي الأكثر اعتبارية ورمزية في تاريخ تونس الحديثة والمعاصرة.
غير أن تجرؤ النهضة على تجاوز الخطوط الحمراء، التي كثيرا ما نصحت إخوان مصر سابقا وحركة حماس، بعدم الاستهانة بألغامها السياسية شديدة الانفجار، يضعنا أمام استحقاق التفكير والتحليل صلب تقاطعات المناخات الإقليمية والدوليّة مع الأوضاع الداخليّة.
حيال الشهية المتعاظمة لحركة النهضة، يبدو أنها محتاجة لحميّة مستعجلة، فهُناك ثمار لم يحن وقت جنيها، وأخرى عسيرة الهضم، وثالثها مسمومة قد تودي بأصحابها
تتعامل حركة النهضة مع اللحظة السياسية، مرحلة ما بعد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، بكافة إكراهاتها وتنازلاتها، إذ تدرك أن توازنات المشهد السياسي التونسي، تُعفيها من انسحابات تكتيكية ومن توافقات إكراهية ومن مشاركات رمزية في الحكومات.
وهي تُدرك أيضا أن كافة الأحزاب المعنية اليوم بالاستحقاقات الرئاسية والبرلمانية، إما هي أحزاب وظيفية وقتية ورقية تأسست قصد إيصال الحالمين إلى قرطاج، وإما هي أحزاب وليدة نهشت من مصداقيتها تعاسة الحكم الحالي أو سياسات الحكم السابق لزين العابدين بن علي، وإما هي أحزاب ضربتها لوثة الانقسامات فإذ هي تراود اللحظة السياسية قصد اقتلاع بعض المقاعد البرلمانية.
وهي بذلك تدرك أنّ زمن الكتلة التاريخية انتهى مع رحيل قائد السبسي، السياسي الوحيد الذي كان قادرا على تغيير المُعادلات والتوازنات وجمع المتناقضات وحشر النهضة في الزاوية.
لحظة ترشيح مورو إلى الانتخابات الرئاسيّة، هي بالضبط، لحظة الالتقاء بين رغبة القواعد في إعلان التمكين، مع سعي القيادات إلى المزيد من التمكّن من مفاصل الحياة السياسية في البلاد.
وهي أيضا لمن يعرف بواطن الحركة، استدراك ذكي للمُفارقة السياسية التي وقعت فيها النهضة إبان الانتخابات الرئاسية 2014، حين كان عقل القيادات مع الراحل السبسي ووجدان القواعد مع المنصف المرزوقي.
ولئن جاز لها المجازفة بالخزان الانتخابي في 2014، على ضوء أسبقية التشريعية للرئاسية، فإنّ الاستمرار في الرمادية بين المرشحين في رئاسية 2019، من شأنه أن يضرب مصداقية الحركة ويشتت أصوات داعميها في التشريعية، على ضوء أسبقية الرئاسية على التشريعية.
وبغض النظر عن إمكانيات فوز مورو من عدمها، فإن دفع مرشّح ثقيل للانتخابات الرئاسية، هو إشارة واضحة، بأن الحركة معنية بالمحكمة الدستورية، وبهندسة العلاقات الدولية، وبقضايا الدفاع الوطني، وحتى بتقليم أظافر بعض المُبادرات التشريعية السابقة وعلى رأسها المساواة في الميراث.
وأن تدفع النهضة بشخصيتين وازنتين في العملية الانتخابية، راشد الغنوشي في البرلمانية وعبدالفتاح مورو في الرئاسية، فهي تضع بذلك الشروط للراغبين في التحالف معها، بأنها لن ترضى بغير اليد الطولى والعليا في دوائر السياسة والحكم.
هُنا، قد لا نستغرب من إمكانية أن تنسحب الكثير من الوجوه السياسية من السباق الانتخابي الرئاسي، لصالح مورو، ولصالح تفاهمات انتخابية وبرلمانية لاحقة. أمام هذه الشهية المتعاظمة تقف عدّة منزلقات أمام الحركة، وقد تنجر عنها استتباعات على البلاد ككل.
أوّلها، إمكانية استدرار نموذج نداء تونس على النهضة، وذلك بعد أن أعيته السلطة ومقاليدها وبات في قُبالة الانتقادات الإعلامية والسياسية، الأمر الذي أدى إلى تشرذمه على أكثر من شقّ متناحر مع الآخر.
ثانيها، مخاطر العودة إلى نموذج الرئيس الحقوقي المتحزب الذي لا معرفة عميقة له بالدولة، في وقت سطر الرئيس الراحل توافقا وطنيا بأنّ الرئاسة هي منصب رجالات الدولة الديمقراطيين.
تتعامل حركة النهضة مع اللحظة السياسية، مرحلة ما بعد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، بكافة إكراهاتها وتنازلاتها، إذ تدرك أن توازنات المشهد السياسي التونسي، تُعفيها من انسحابات تكتيكية ومن توافقات إكراهية
ثالثها، وهو الأهمّ، مدى استيعاب كناه حركة النهضة للواقع الإقليمي والدولي في تعامله وتعاطيه مع الإسلاميين ومدى قناعته بوجود رئيس إسلاميّ في تونس. القضية ليست فقط مسألة استحقاق وطني وسيادة داخلية، بل هي أيضا مرتبطة بمدى قبول العواصم الإقليمية والدولية الكبرى بالأمر، وبمدى إمكانية تأثيره على العلاقات الثنائية والبينية مع الكثير من العواصم العربية التي تضع تيارات الإسلام السياسي على لوائح الإرهاب.
ولئن كان قائد السبسي قد نجح في شيء ما، فهو إعادة العلاقات إلى زخمها ومستواها المعقول، مع الكثير من العواصم العربية والخليجية، على رأسها القاهرة وأبوظبي والمنامة والرياض، وطمأنة العواصم الغربية والأوروبية على الطابع المدني للدولة التونسية على الرغم من مشاركة الإسلاميين في الحكم.
ويصعب في مثل هذه الأوضاع الإقليمية المتفجرة، المُحافظة على إرث السبسي في العلاقات الدولية برئيس ينتمي إلى منظومة الإسلام السياسي، حتّى وإن كانت في خطابه الكثير من مياسم المدنية والانفتاح وقبول الآخر، وفي ترجمته السياسية موقف حازم من العنف السياسي.
تدوينة وزير الخارجية الأسبق رفيق عبدالسلام، تتنزل في ذات المخاوف التي نعبر عنها، وهي ذات المقولة التي أكدها الراحل محمد حسنين هيكل عندما قال بأنّ الغرب قد يكون اقتنع بضرورة مشاركة الإسلاميين في الحكم ولكنه ليس مقتنعا بسيطرتهم على الحكم في بلداننا العربية.
حيال الشهية المتعاظمة لحركة النهضة، يبدو أنها محتاجة لحميّة مستعجلة، فهُناك ثمار لم يحن وقت جنيها، وأخرى عسيرة الهضم، وثالثها مسمومة قد تودي بأصحابها، وما النموذج المصري منّا ببعيد.