بريطانيا.. وعود المحافظين
كم كبير من الوعود أطلقها رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك خلال المؤتمر السنوي الأخير للحزب الحاكم.
لكل ناخب محتمل في الاستحقاق المقبل الذي لم يُعرف موعده حتى الآن، خلق سوناك أملا بتغيير حياته أو حياة أولاده وأحفاده نحو الأفضل.. ولكن السؤال، هل لا زال سكان المملكة المتحدة يثقون بوعود المحافظين؟.
سوناك طرح نفسه كثائر على السياسة البريطانية المتواصلة منذ عقود. قال إنه وحكومته لن يمارسوا ذات الاستراتيجية الداخلية التي اتبعها أسلافهم، فالمشكلات القائمة في البلاد تحتاج إلى حلول جذرية لن تتحقق إلا عبر قرارات طويلة الأجل. الفكرة تبدو جذابة ومنطقية، ولكن ما الذي ثار عليه سوناك فعلا، وهل تنتصر “ثورته”؟.
يريد سوناك إصلاح التعليم الذي تفاخر بدوره في حياته السياسية والمهنية، يخطط لمضاعفة أعداد العاملين في القطاع الصحي، وسد العجز الحالي من الأطباء والممرضين لا زال عصيا على الحكومة، وعد مدن الشمال بشبكة مواصلات لم تعرفها من قبل، ولكنه لن يكمل مشروع القطار فائق السرعة الذي انتظره الناس هناك لسنوات.
سوناك أطلق البرنامج الانتخابي لحزبه في الاستحقاق المقبل، لكنه احتفظ بتفاصيل “ثورته” التي يبدو أن الشارع انقسم إزاءها، وفي الواقع، هو نجاح بحد ذاته أن يدفع سوناك البريطانيين إلى إعادة النظر في مستقبل حزب تصر استطلاعات الرأي على أنه سيغادر السلطة بمجرد فتح صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
ربما تكون هذه المراجعة هي جل ما أراده سوناك من خطابه في المؤتمر السنوي للمحافظين، ولكن المشكلة ستتفجر إن أثبتت الأشهر المقبلة للبريطانيين، عبثية فكرة صلاح الحزب الذي غرق بأخطاء وفضائح قادته خلال العامين الماضيين. فردة فعل الشارع ستكون أقسى، وحجم الخسارة في الانتخابات سيكون أكبر بكثير من المتوقع.
من باب الإنصاف، أظهر وزراء سوناك قناعة كبيرة بـ “ثورته”، وعبروا في كلماتهم عن انخراط كامل في الوعود التي أطلقها قائدهم، فبدا الحزب الحاكم أكثر تماسكا مما كان متوقعا، ولم تصب التنبؤات بلعنة تنتظره نتيجة لحضور رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، أو تغيب سلفها بوريس جونسون عن مقاعد المؤتمر السنوي.
تجدر الإشارة أيضا إلى أن ثورة رئيس الوزراء لم تشمل الخروج من الاتحاد الأوروبي، بل على العكس، كان فخورا جدا بما حققه “بريكست” حتى الآن، واستدعى من الأرقام والبيانات ما يدحض نظرية الفشل التام لقرار البريطانيين في استفتاء عام ٢٠١٦، وما يؤكد أن الحزب الحاكم لا يشعر بندم إزاء تنفيذ نتائج ذلك الاستفتاء.
في ذات السياق، يسجل لرئيس الحكومة اعتماده على الأرقام لبناء القرارات ووضع الخطط، وما يعزز من موقفه هو إخلاص وزير الخزانة جيرمي هنت الذي يفضل مكاشفة الناس في أبعاد الواقع المالي الراهن، ولا أحد ينكر أن تناغم هنت وسوناك أعاد الثقة المحلية والدولية بالاقتصاد البريطاني بعد زلزال ليز تراس الكبير.
باختصار، أجاد رئيس الحكومة ووزراؤه في إطلاق الوعود الرنانة خلال مؤتمر المحافظين، والرهان الآن حول مدى تصديق البريطانيين لهذه الوعود، أو على الأقل، اعترافهم بجدواها إذا التزم الحزب الحاكم بتنفيذها، وهذا الإنجاز بحد ذاته، يزيد عدد المترددين إزاء التصويت لصالح حزب العمال في الانتخابات العامة المقبلة.
إن لم تتفجر الخلافات بين نواب وقادة الحزب الحاكم خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة، فهذا يعني أن المحافظين وضعوا عربتهم على سكة الإصلاح المنشود لاستعادة ثقة الشارع بهم، ولكن الوقت المتبقي أمامهم ليس بكثير، ولا بد من بعض الدهاء السياسي من أجل لفت انتباه فئات معينة يعول عليها كثيرا في الاستحقاق القادم.
اليمين بكل تدرجاته، هو الأقرب إلى حزب المحافظين، وأصوات هذا التيار تنحاز في المجمل لقضايا رئيسية مثل وقف الهجرة غير الشرعية، والمحافظة على الأسرة البريطانية بعيدا عن نظريات المثلية والتحول الجنسي، إضافة للملفات الأخرى التي يهتم بها الجميع فيما يتعلق بكلفة المعيشة وفرص ازدهار الاقتصاد الوطني.
وزيرة الداخلية سويلا برافرمان نجحت بلفت انتباه تيارات اليمين عبر التحذير من “إعصار المهاجرين” إن لم تغلق الحدود وتتوقف القوارب الصغيرة، وكي ترسخ الانطباع، وضعت برافرمان اليمينيين أمام خيار إعادة انتخاب المحافظين لضرب المهاجرين بيد من حديد، أو التصويت للعمال وإغراق البلاد بطوفان اللاجئين.
لم تعد تهتم وزيرة الداخلية لمبادئ حقوق الإنسان المنصوص عليها في القوانين الأممية، ولا يهمها إن اتهمت هي ذاتها بالعنصرية بينما تطارد المهاجرين القادمين عبر بحر الشمال، وكم يبدو هذا الخطاب محببا لجماعات اليمين المتطرف التي تتمنى طرد كل الأجانب بين ليلة وضحاها، لكي تعود بريطانيا صافية العرق واللون.
وزير الصحة ستيف باركلي أثار أيضا انتباه اليمين في خطابه أمام مؤتمر الحزب الحاكم. فقال باركلي إن التمييز بين الذكور والإناث في خدمات الصحة الوطنية لن يتأثر بالتحول الجنسي. فالمحافظون “لا زالوا يفرقون بين الجنسين، وسينعكس هذا في الإشارات الواضحة لكل من الذكور والإناث في مرافق الخدمات الصحية، كما لن تتقاسم النساء الحجرات الصحية إلا مع الذين ينتمون إلى ذات جنسهم البيولوجي فقط”.
وسواء في إطلاق الوعود الكبيرة، أو بتخويف البريطانيين من تردي أوضاع البلاد في حال مغادرة المحافظين للسلطة، لا توجد مؤشرات بأن الحزب الحاكم قد تجاوز مرحلة الخطر، وبات يقف إلى جوار “العمال” في مضمار السباق الانتخابي المقبل. فالفجوة بين الحزبين لا تزال كبيرة، والطريق طويلة أمام سوناك وحكومته.
ثمة مثل فرنسي يقول إن “العطاء بدون وعد خير من الوعد بدون وفاء”، وهناك مثل عربي في ذات السياق يقول إن “وعد بلا وفاء عداوة بلا سبب”، والخلاصة أن آخر ما يحتاجه المحافظون اليوم هو مزيد من العداوة مع الشارع البريطاني، وآخر ما يصبو إليه سوناك تحديدا النكوث بوعود “ثورته” التي يراهن على أنها ستبقيه في السلطة لخمس سنوات متتالية، ليس لأن نوابا في الحزب الحاكم أسكنوه المنزل رقم ١٠، وإنما لأن البريطانيين جميعهم اختاروه قائدا للدولة، وزعيما للحزب الأزرق.