بوعزيزي النهضة.. الهزيمة من الداخل أولا
مختار الدبابي
اتضحت الرواية بشكل لا لبس فيه، وهي أن سامي السيفي، السجين السابق المنتمي إلى النهضة عمل لديها كحارس في مقرها المركزي الشامخ، ثم تخلت عنه، وحين سعى إلى مقابلة رئيس الحركة راشد الغنوشي أو أحد معاونيه الكبار لإثنائهم عن قرار فصله من عمله الهش وتفهم أوضاعه الصعبة، أهملوه ورفضوا مقابلته.
واضطر الرجل الذي ضحى بدراسته ومستقبله من أجل الحركة إلى أن ينتحر في مقرها وبوجود أبرز قادتها، رئيس مجلس الشورى عبدالكريم الهاروني، ونائب رئيس الحركة علي العريض، في رسالة بالغة الدلالة على نهاية مأساوية ليس فقط لمناضل سياسي تنكر له رفاقه واحتقروه لأنه بلا شهادات، وليس من صف فلان أو علان من قيادات الصف الأول، ولكن لحركة النهضة التي انتحرت رمزيا في صفوف أبنائها كقيمة وكميراث أخلاقي روحي لحركة استقطبت الآلاف من التلاميذ والطلبة على قاعدة قيم الجماعة التي تقوم على الإيثار والتضامن ووحدة الصف.
يقول سامي إبراهم، وهو سجين سياسي سابق من النهضة، وأحد الباحثين في الظاهرة الإسلامية، إن السيفي عمل في شركة أدوية ووقع تسريحه من عمله بشكل تعسّفيّ، “فالتجأ إلى الحزب الذي سجن بسبب تهمة الانتماء إليه لينصفه ويتدخّل لدى المشغّل… فكان الحلّ من قبيل المسكّنات حيث أوكلت إليه مهمّة هامشيّة في المقرّ المركزي للحزب بمقابل زهيد لا يليق بمناضل”.
وأضاف “لكن لم يطل به المقام فقد وقع تسريحه من عمله في مقرّ الحزب في إطار سياسة التقشّف.. اختارته يد الضّغط على الإنفاق ليكون هو ضحيّة هذا الخيار.. دون اعتبار لحاجته وفاقته وحاجة عائلته”.
وتابع “كان سامي متعفّفا بينما استغلّ آخرون قربهم من دوائر القرار في الحزب لتحسين وضعهم الاجتماعي”.
هذه شهادة من الداخل عن سبب الانتحار، وأن الأمر لا علاقة له بانتحاري جاء يستهدف مقر الحزب “المظلوم”، وإنما تفجير من الداخل لا شك أنه سيهز كيان النهضة هزا عنيفا ويوسع دائرة الغاضبين والمستقيلين واليائسين، ويفتح أعين التونسيين على حقيقة ما يجري في حركة تمكنت من الحكم لسنوات ونفخت في صورتها، لكنها في الأخير عجزت عن احتمال غاضب مظلوم بحث عن الأمان فلم يجده ما اضطره إلى الانتحار.
الآن دخلت النهضة مرحلة أخرى مغايرة، هي مرحلة الحزب الذي يرتبط بالزعيم والقائد الملهم، الذي يمتلك كل شيء بما في ذلك ولاء المنتسبين وسمعهم وطاعتهم مقابل أن يحصلوا على رواتب ثابتة أو مهن هامشية.
لقد وجه سامي السيفي رسالة دقيقة إلى الغنوشي والمحيطين به مفادها: انظر لقد قدتمونا إلى الانتحار بأبعاده المختلفة، انتحار مادي يظهر مفارقة عجيبة أن الحركة التي تلكأت بالبداية في وصف محمد البوعزيزي في 2010 بأنه شهيد بالرغم أنه أعادها إلى البلاد وقادها إلى الحكم، تجد نفسها اليوم تغير التوصيف ومن اللحظة الأولى بأن تصف من انتحر احتجاجا على سياستها بأنه ”شهيد آخر من شهداء النضال”، كما جاء على لسان الغنوشي.
والمفارقة الأكثر إيلاما أن الحركة الدينية التي تحرّم قتل النفس، وتعتبر المنتحر قاتلا لنفسه مآله جهنم، قد أفرغت من مخزونها الروحي والديني الذي كان يقوم على الإخاء والتآزر والخوف من الله، وبات شغلها الداخلي الصراع على المواقع وبناء الأحلاف، وتخلت عمن آزروها ودفعوا أثمانا كبيرة في وقت كانت نفس القيادة قد هربت إلى الخارج وتركتهم لمصيرهم ثم عادت وركبت على أكتفاهم لتصنع مجدها الشخصي مجددا ولم تلتفت إليهم إلا في سياق معارك التحشيد والتصفيق.
الحركة الإسلامية التي كانت تدعو الناس وتستقطبهم للالتزام بالدين، تركت الدين وراءها. كان مرحلة ووسيلة من أجل الصعود إلى السلطة.
واللافت أن جماعة النهضة سواء القيادة الحالية أو المستقيلين والغاضبين تنادَى أغلبهم ليتّهم الآخر بتحمّل مسؤولية مقتل سامي السيفي بدل مصارحة النفس وقول الحقيقة، فالانتحار لم يكن احتجاجا على الدولة ولا تحت ضغط الحملات الإعلامية ضد الحركة كما قال الغنوشي. كان احتجاجا على النهضة، وغضبا عاليا ضد سياسات الغنوشي، واتهاما مباشرا له بالتقصير في التوصل إلى حل مرض لمسألة العفو التشريعي.
وخلال السنوات الماضية، اتهم متمتعون بقرار العفو التشريعي الغنوشي بأنه كان يضع ملفهم آخر اهتماماته ولم يجعله أولوية في مفاوضات تشكيل الحكومات المختلفة، ولأجل ذلك لم يكن الملف على أجندة أي حكومة، وأن ما كان يهم رئيس الحركة هو توجيه الرسائل لنيل ثقة أطراف في الدولة العميقة من أجل القبول به كشريك سياسي في السلطة.
وبدل الاعتذار لعائلة المنتحر عن مسؤولية الحركة في ما انتهى إليه من يأس، خير الغنوشي الهروب إلى الأمام، وتقديم تفسير يلقي المسؤولية على الدولة والسياسيين وعلى الإعلام.
وقال الغنوشي إنّ الكهل المنتحر في المقرّ المركزي للحزب ”هو شهيد آخر من شهداء النضال من أجل تحرير تونس من الظلم والدكتاتورية والفساد والتهميش وضحية أخرى من ضحايا الفقر”.
وتابع رئيس الحركة “سامي هو ضحية من ضحايا الحرب الظالمة الإعلامية على المناضلين وتجريمهم رغم أنّه وبعد 10 سنوات من الثورة لم يحصل على أي تعويض.. ما حدث ثمرة من ثمرات الإعلام الظالمة على النهضة وشبابها ومناضلي الثورة”.
ولا شك أن انتحار السيفي لن يمر دون أن يحدث زلزالا شبيها بما أحدثه انتحار البوعزيزي في مثل هذا الوقت من 2010، وهو الزلزال الذي قاد إلى سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
وليس مستبعدا أن ينهي هذا الانتحار سلطة الغنوشي داخل النهضة، قد لا يكون الأمر الآن لأن الجماعة ستسعى لأن تفوت الفرصة على استثمار الخصوم لهذه الحادثة، لكن بالتأكيد ستكون لها تداعيات كبيرة من خلال ضغط أشد على رئيس النهضة لتحديد موعد للمؤتمر وتقديم تعهد بعدم الترشح لدورة جديدة وإعلان ذلك بشكل لا لبس فيه في تصريحات إعلامية، أو أن موجة الاستقالات ستتوسع، كما سيخرج الكثيرون عن واجب التحفظ الذي يفرضه الالتزام الأخلاقي عليهم، ما يوفر مادة كافية ليعرف الناس الحركة من الداخل، تاريخها، وكيفية إدارتها، وارتباطاتها الخارجية، ودورها في الأزمات التي عاشتها تونس.
وستكون الحادثة منعرجا حساما في علاقة التونسيين بالحركة. ورغم أن طيفا واسعا يحملها مسؤولية الأزمات التي تعيشها البلاد بسبب مواقفها الملتبسة وإصرارها على البقاء في السلطة كلاعب من وراء الستار بدل تحمل المسؤولية، إلا أن حادثة الانتحار ستعمق القطيعة شعبيا معها بسبب اهتزاز صورتها من الداخل وسقوط صور النماذج الذي روجت لها على أنها قيادات نظيفة وملتزمة، فإذا بها تفشل في إنقاذ روح لأحد منتسبيها، فما بالنا بأرواح التونسيين.
لقد كانت الرسالة الأبلغ التي وجهها انتحار السيفي إلى الغنوشي ورفاقه هي أن بوعزيزي قبل 10 سنوات أحرق نفسه وأوصلكم إلى الحكم و”بوعزيزي” من أهل النهضة يحرق نفسه ليخرجكم من لعبة السياسة.