بين تونس ومصر والإخوان وحسابات الحسم والتردد
الحبيب الأسود
عندما خرج الرئيس التونسي قيس سعيد للتأكيد على أن بلاده دولة ذات سيادة تعرف جيّدا المعاهدات الدولية والاتفاقيات أكثر مما يعرفونها، كان يقصد الدول السبع الصناعية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكل القوى الخارجية التي تقحم نفسها في الشأن الداخلي لبلاده، ولاسيما في ظل التدابير التي بدأ الرئيس يتخذها في اتجاه ما يعتبرها مناصروه حركة تصحيحية، بينما يرى فيه معارضوه انقلابا على الشرعية والدستور واتجاها لتكريس نظام استبدادي غير مسبوق في البلاد.
وليس خافيا على المراقبين، أن هناك قوى تجييش ضد قيس سعيّد وقراراته ومواقفه وتدابيره الاستثنائية، يتصدرها الإسلام السياسي وحاضنته السياسية والإعلامية إقليميا ودوليا، وبعض المنظمات الحقوقية الدولية النشطة من خلال فاعلين تونسيين داخلها ضمن صراع قديم مع أساسيات ومفهوم الدولة الوطنية ذاتها، وهو ما يبدو أن الرئيس قيس سعيد يدركه جيدا، فهو وقبل أن يكون رئيسا للبلاد، كان أحد المتابعين الدقيقين لما يدور في تونس وخارجها، ولديه معرفة واسعة بمعنى التدخلات الخارجية وما نتج عنها في دول المنطقة.
يدرك قيس سعيّد، أن الإخوان والدائرين في فلكهم، يتحركون بما لديهم من إمكانيات، لتشكيل رأي عام غربي بالأخص، معاد لتدابير الخامس والعشرين من يوليو 2021، ولما تلاها من إجراءات، كالأمر الرئاسي 117 الصادر في الثاني والعشرين من سبتمبر، وخارطة الطريق للمرحلة القادمة، وصولا إلى الموقف من المجلس الأعلى القضاء، وذلك من خلال الترويج لصورة نظام دكتاتوري مستبد في حالة تشكّل، مقابل نسف تام للمسار الديمقراطي والتعددي الذي طالما راهنت عليه العواصم الغربية كنموذج يمكن أن يحتذى به في المنطقة العربية.
وبالمتابعة الدقيقة للأحداث، فإن المواقف الخارجية وخاصة الأميركية والأوروبية لم تكن سلبية في قراءتها وتوصيفها لتدابير وإجراءات الخامس والعشرين من يوليو، رغم أنها شملت تجميد أعمال وصلاحيات برلمان منتخب وحلّ حكومة منبثقة عنه، وذلك لجملة من الأسباب، من بينها أن المجتمع الدولي كان يتابع مجريات الأحداث في تونس خلال السنوات العشر الماضية، ولديه اطّلاع على حالة الفشل التام سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وعلى ملفات الفساد ومحاولات الانقلاب على النموذج المجتمعي الحداثي، وكذلك على الصراع القائم من أجل تقاسم الغنائم مع إهدار ما لا يقل عن 30 مليار دولار من القروض والهبات دون أن يكون لها أيّ انعكاس إيجابي على أرض الواقع، كما أن المانحين الدوليين باتوا على قناعة بأن الرئيس قيس سعيد يبدو الوحيد مرحليا القادر على قيادة مشروع إصلاح اقتصادي بما لديه من دعم شعبي كبير.
بالمقابل، تأخر الرئيس قيس سعيد في إعلان الكثير من القرارات المهمة، ولم يعط أهمية للوقت في ظل سياقات ضاغطة، كما أن الترويج لفكرة تركيز نظام سياسي جديد وغير متعارف عليه في المجتمعات الحديثة، والخطاب المتشنج في الكثير من الأحيان، أثارا الكثير من نقاط الاستفهام التي سعى الإخوان وحلفاؤهم إلى إحاطتها بأجوبة تتلاءم مع تطلعاتهم لمحاصرة الرئيس ومشروعه ولو عبر محاصرة الدولة والمجتمع، كما حدث مع مصر سابقا.
عندما ثار الشعب المصري على حكم الإخوان في الثلاثين من يونيو 2013، مهد الطريق لإعلان الإطاحة بحكم الإخوان في الثالث من يوليو، وهو الحدث الذي اختلفت حوله الآراء، حيث يعتبره البعض انقلابا على الشرعية، ويرى فيه البعض الآخر ثورة شعبية عارمة، ومن يرون فيه انتفاضة خطط لها وقادها الجيش في محاولة لاستبعاد دور الحشد المليوني الذي خرج للشوارع مناديا بإنهاء مهزلة حكم الجماعة.
كان واضحا منذ البدء أن ما حدث في مصر هدفه إنهاء حكم الإسلام السياسي بعد التجربة الفاشلة لمحمد مرسي، ومن وراء ذلك تحصين الدولة المصرية وسيادتها وسلامة أراضيها ونسيجها الاجتماعي ودورها الإقليمي والدولي، وذلك بالتزامن مع الصراعات القائمة حول حدود مصر، وتفاقم الأزمات في المنطقة العربية بسبب ما سمّي بثورات الربيع العربي، وظهور نذر التقسيم على الساحتين السورية والليبية بعد فترة قصيرة من تقسيم السودان، واتساع ظاهرة الإرهاب. وهي ظاهرة لم تكن عواصم الغرب بعيدة عنها، حيث كان الهدف ترويض الجماعات الإرهابية تحت مظلة ما توصف بالجماعات المعتدلة وتقديمها إلى واجهة الحكم، وهو ما تبين من خلال التحالف على عدد من الجبهات بين الإخوان وتنظيم القاعدة الذي اتخذ أسماء جديدة ومنها جبهة النصرة وأنصار الشريعة وجند الإسلام وغيرها.
لقد بدأت عاصفة ما سمّي الربيع العربي من تونس يوم السابع عشر من ديسمبر 2010 الذي يصر الرئيس قيس سعيد على اتخاذه عيدا وطنيا، رغم أنه كان إعلانا عن بدء أسوأ مرحلة في تاريخ العرب المعاصر جعلهم يخسرون ما لا يقل عن تريليون دولار من ثروات الأمة، ومئات الآلاف من القتلى والمصابين، والملايين من اللاجئين، وأدى إلى تدخلات خارجية غير مسبوقة في المنطقة. ومن تونس اتجهت العدوى إلى مصر، لتكون ثاني دول العاصفة، وليتبين من هناك أن لمجريات الأحداث وجوها مختلفة، من بينها الانقلاب على فكرة الدولة الوطنية، والإطاحة بمؤسساتها، والاتجاه نحو سلطة الإسلام الإخواني في إطار منظومة جامعة لشتات التنظيمات الدينية وواعدة بتمكينها من الحكم.
وما عدا تجربتي تونس ومصر، فإن الربيع العربي تحول إلى خريف دموي في ليبيا وسوريا واليمن، وكاد يتسع مداه برغبة وخطة الواقفين وراءه، لولا انكسار مدّه أمام ثورة الثلاثين من يونيو المصرية التي استطاعت أن تصمد أمام أكبر عاصفة، فقد تم اتهام المؤسسة العسكرية بالانقلاب على الشرعية الديمقراطية، والجنرال عبدالفتاح السيسي بقيادة الانقلاب، وتحركت أغلب القوى المؤثرة في المنطقة وفي الغرب ضد التحول السياسي والإطاحة بحكم الإخوان، كما تم الاعتماد على دعم الإرهاب في الداخل من خلال تدفق التمويلات، وعلى الضغط السياسي والعقوبات الاقتصادية في الخارج، حتى أن الإخوان كانوا يمنّون أنفسهم في كل لحظة بعودة مرسي إلى قصر الاتحادية.
ولكن قوة مصر تكمن في موقعها ودورها ومؤسساتها السيادية، وفي تجاربها التاريخية مع لحظات التحدي، وفي حساسية شعبها من التدخلات الخارجية، وفي وحدة الخطاب الإعلامي الموجه إلى الداخل والخارج، وكذلك في تأثيرها المهم في محيطها حيث وجدت دعما كبيرا من أشقائها العرب وخاصة في الإمارات والسعودية والكويت والبحرين، بالإضافة إلى قدرتها على الاستفادة من حجمها التاريخي والجغرافي والديمغرافي والحضاري ومن مكانتها الاستراتيجية كدولة مركزية قائدة للاتجاه شرقا بالانفتاح الكبير على موسكو وبكين، وغير ذلك من الأوراق التي لعبتها القيادة المصرية بذكاء، وبخاصة المشاريع التنموية الكبرى وحركة التجديد في المجتمع والبنية الاقتصادية وفي إنعاش روح الانتماء لدى المواطن المصري.
أنهى المصريون حكم الإخوان، ونجحوا في تفكيك الجماعة، وقد كان واضحا أن كل مؤسسات الدولة اشتغلت على ذلك برؤية تتأسس على فكرة التناقض بين الجماعة والمجتمع، وبين فكرة الدولة الدينية ومقومات الدولة الوطنية الحديثة المحصنة بكل أبنائها وطوائفها، بينما لم تعلن تونس حربا على الإخوان، ولم تدفع بقياداتهم إلى السجون، ولم تطح برئيس منتخب كما حدث مع مرسي، وإنما الرئيس المنتخب قيس سعيد هو الذي يقود التدابير الاستثنائية ضمن الحركة التصحيحية التي يرى أنها ضرورية لإنقاذ الدولة من المخاطر التي تهددها، فعن أيّ انقلاب يتحدثون؟
اقتنع المصريون في العام 2013 بأن المعركة مع الإخوان هي معركة وجود، وليست معركة تجاذبات على الصلاحيات كما تم الترويج للحالة التونسية، وقد استطاع الرئيس السيسي حسم المسائل كافة ضمن رؤية وطنية شاملة، فيما تمر تونس بمرحلة تردد في صياغة القرارات الضرورية الحاسمة، وهو ما جعلها عرضة للضغوط الخارجية خلال الفترة الماضية. فترددك يمكن أن يكون أفضل سلاح يتم استغلاله ضد مشروعك، ليس فقط من قبل أعدائك ولكن كذلك من قبل الباحثين عن فرصة الهيمنة على قرارك أو التأثير عليه حتى من الأصدقاء أنفسهم.
ما حدث في مصر كان ثورة على حكم الإخوان واجتثاثا لمشروعهم، وما حدث في تونس هو استهداف لمنظومة سياسية سابقة من بين مكوناتها تنظيم الإخوان دون إبداء العداء لهم، مع محاولة لتكريس نظام سياسي جديد ببصمة الرئيس قيس سعيد، ولكن مع بطء في اتخاذ القرارات، وواقع اقتصادي صعب، وغموض في التصورات الداخلية أثّر على المواقف الخارجية.
من البديهي أن لكل بلد خصوصياته، ولكل دولة ظروفها، ولكل مرحلة حساباتها، وهو ما يجعل المقارنة لا تستقيم بين الحالتين حتى وإن كانت عوامل التأثير والتأثر قائمة بينهما عبر التاريخ بكافة مراحله.