ترامب يضع أوروبا في مرحلة شديدة القلق والترقب
إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن التنحي عن سباق الرئاسة الأمريكية، وتعاظم فرص منافسه دونالد ترامب باستعادة منصبه كرئيس للولايات المتحدة، أدخل البلدان الأوروبية في مرحلة شديدة القلق والترقب، بسبب ما يضمره ترامب اقتصاديا وأمنياً لبلدان التكتل الأوروبي.
للتعرف على ما يخبئه المستقبل لأوروبا، فإن المكان الذي يجب متابعته هذا الأسبوع ليس قصر بلينهايم أو البرلمان الأوروبي، بل المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في ميلووكي. فهناك استعرض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ذي الأذن المضمدة ونائبه جي دي فانس خططهما، مثل تجميد أو إنهاء الحرب في أوكرانيا، وتعزيز المنافسة مع الصين، وتبني سياسات حمائية، وقمع الهجرة.
وقد حان الوقت لكي تستعد أوروبا لمواجهة صدمة عابرة للأطلسي، والتي قد تنشأ عن تولي ترامب ولاية ثانية “ترامب 2.0” مع تبني سياسات أكثر عدوانية من ذي قبل.
من شأن تقسيم أوكرانيا كجزء من صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يبشر بواقع جديد للاتحاد الأوروبي، غير المستعد مطلقاً لضم كييف أو الوفاء بالتزاماته الأمنية من دون دعم الولايات المتحدة. كما أن الضغط للتوافق مع أميركا بشأن الصين، الذي كان صعباً بالفعل في ظل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، سيؤثر على الشركات الأوروبية الكبرى مثل عملاق صناعة الرقائق الهولندي “إيه إس إم إل هولدينغز” (ASML Holding NV) و”فولكس واجن” (Volkswagen AG) الألمانية.
الأولوية للطلب المحلي على حساب الحلفاء
ويعتقد الخبير الاقتصادي برونو كولمانت، أن سياسات ترامب الاقتصادية التي تعطي الأولوية للطلب المحلي على حساب الحلفاء، قد تكون دراماتيكية مثل صدمة ريتشارد نيكسون عام 1971 التي تخلت عن معيار الذهب ورفعت التعريفات الجمركية. (لم يكن نيكسون مبالياً بالشكاوى الخارجية، فقد قال “لا أهتم بالليرة مطلقاً”).
في عالم مثالي، نظراً لارتفاع شعبية ترمب في استطلاعات الرأي ووجهات نظر دي فانس، سيكون لدى أوروبا رد جاهز، بصرف النظر عن الآمال المتعلقة بقابلية إدارة التأثير الاقتصادي للتعريفات الجمركية. فهذه الكتلة واجهت سلسلة من الأزمات في العقد الماضي، وتتوق لأخذها على محمل الجد كقوة عظمى وليست تابعة للولايات المتحدة، كما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذات مرة.
ومع ذلك، لا يزال من الممكن سماع نغمة تتراوح بين الإنكار والرفض في أروقة بروكسل، بدءاً من الإيمان بالتضامن الغربي ووصولاً إلى التفاؤل بأن مزيجاً من الاسترضاء والتدابير المضادة سيكفي للتعامل مع ترمب. أو كما يقال: تعاملنا مع ترمب مرة، ويمكننا فعلها مجدداً.
أوروبا مشتتة سياسياً
هذا ليس كافياً، فأوروبا، التي أصبحت أكثر اتحاداً منذ ظهور ترامب لأول مرة على الساحة العالمية، تعزز إنفاقها على قدراتها الدفاعية. لكنها تعتبر أضعف من نواحي أخرى. إنها مشتتة سياسياً، ففرنسا مثلاً ليس لديها رئيس وزراء بعد انتخابات فوضوية، فيما يفشل الائتلاف المنقسم في ألمانيا في القيادة، ويجري رئيس هنغاريا فيكتور أوربان جولة دبلوماسية فردية تتضمن لقاء بوتين (وترمب).
وعلى الصعيد الاقتصادي، يعتبر نمو منطقة اليورو ضعيفاً، واعتماديتها التجارية أكبر. وبينما أصبح التكتل رائداً في الإجراءات البيروقراطية والتنظيمية لحماية المستهلكين لديه، فإنه يفتقر للإمكانيات التي قد تمكنه من منافسة أكبر شركات التكنولوجيا الأميركية.
وتعليقاً على الأمر، قال إريك موريس، من مركز السياسة الأوروبية، إن “أوروبا أقل سذاجة مما كانت عليه في 2016، لكنها أكثر عرضة للخطر”.
الانقسامات العميقة بين برلين وباريس
تفاقم الانقسامات العميقة بين برلين وباريس الوضع. فقد واجه نموذج التصدير الألماني المتعثر بالفعل ضربات هائلة في أعقاب جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، كما أن تعريفات ترمب ستكبد الاقتصاد الألماني أكثر من 1% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2028، وفق ورقة بحثية أصدرها معهد “آي دبليو” (IW institute) في مارس.
ومع ذلك، تبدو ألمانيا أكثر اهتماماً بالدفاع عن مصالحها التجارية وإلقاء اللوم على العجز المتزايد في ميزانية فرنسا، بدلاً من تبني أفكار فرنسية مثل المزيد من التكامل والاستثمار لتعزيز الكتلة.
كما يدعو الاقتصادي لارس فيلد، مستشار وزير المالية الألماني، إلى الانضباط المالي بدلاً من الثورة المالية.
استراتيجية “التعايش”
وفي ظل احتمالية تلاشي مساعي ماكرون نحو اتحاد أوروبي أكثر استقلالية مع اقتراب انتهاء فترته الرئاسية، تزداد احتمالات اتباع استراتيجية “التعايش”. وربما يجمع هذا النهج الأهداف متزايدة الارتفاع للإنفاق الدفاعي في حلف شمال الأطلسي “الناتو” مع تدابير تجارية مضادة.
لكن سيكون من الأفضل حدوث تحول هيكلي في التفكير نظراً لخطر التحول الأمني الجدي لترامب بعيداً عن أوروبا، التي تحتاج إلى تعزيز صناعتها الدفاعية المحلية لمواكبة المنافسة الصينية الأميركية، وزيادة الإنفاق المشترك لتعزيز الاستثمار الأوروبي، بجانب إصلاح سوقها الموحدة لتشجيع الابتكار. وسيكون من حظها السعيد تحقيق أي من هذه الأمور بحلول 2025.
يعد اليورو الحصن الأخير المتبقي لحماية أوروبا من التحديات الاقتصادية. وربما يكون الوقت حان للنظر إلى فرانكفورت وأدوات البنك المركزي الأوروبي، وسط تولي رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الذي لم تُختبر قدراته بعد، مهامه في وستمنستر، والتغييرات المستمرة التي تشهدها بروكسل مع استعداد لجنة جديدة للتشكيل.
خص ترامب خطته الاقتصادية بوضوح مريب، حيث يعتمد أسعار فائدة منخفضة، وضرائب منخفضة، وتعريفات جمركية أعلى. ويتعين على البنك المركزي الأوروبي أن يكون مستعداً للنظر في مزيد من التخفيضات في تكاليف الاقتراض لدعم اقتصاده وصادراته، حتى في ظل مخاطر ارتفاع تكلفة واردات مثل الطاقة. إذا لم تستطع أوروبا أن تكون قوية، فليكن اليورو ضعيفاً على الأقل، فهو مسكن للألم وليس علاجاً، لكن كل جانب صغير سيجدي نفعاً قبل عودة ترمب للرئاسة.