تونس لم تعد تحتاج إلى الكلام
مختار الدبابي
في كلمته بمناسبة عيد الفطر المبارك تحدّث الرئيس قيس سعيد عن إجراء حوار وطني مع المنظمات الاجتماعية مع استثناء المعارضة السياسية. المقاربة منقوصة ولا شك، لأن حوارا لا يجمع الجميع لا يفضي إلى نتائج ملزمة، ومع ذلك، فإن ما يهم الآن هو أن يبدأ هذا الحوار ولو منقوصا. نريد أن نرى جلسات ونسمع تصريحات ونقرأ عن مقاربة اقتصادية واجتماعية عاجلة تخرج البلاد من أزمتها.
الملف السياسي فيه خلافات كثيرة، وكل جهة لديها مؤاخذات ووثائق وقصص واتهامات لخصومها. لكن الملف الاقتصادي ليس حوله خلاف. الهدف هو بدء الإصلاحات العاجلة، وإزاحة الغطاء عن أزمة حادة تعيشها تونس لن ينجو من تبعاتها أحد من المواطن البسيط في المناطق الداخلية المهمشة إلى رجال المال والأعمال إلى السياسيين.
الخطوة الأولى في أي حوار هي إعطاء المسكنات قبل البدء بالحلول الجذرية. والمسكنات هنا ستكون من مثل تجميد الزيادات في الأسعار وتنفيذ قرارات ضرب الاحتكار بالجدية اللازمة، ثم تجميد الزيادات في الأجور لمدة معلومة وواضحة ضمن مقاربة تقوم على التضحية المشتركة، وهذا ما يجر إلى فكرة الهدنة الاجتماعية التي تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، وهي هدنة لن تأتي دون خلق مناخ من الثقة السياسية مع اتحاد الشغل، وبين أرباب العمل والنقابات، وبين الحكومة واتحاد المزارعين.
هدنة تقوم على فكرة تأجيل المطالب والحقوق والإضرابات والمزايدات إلى ما بعد وضع الاقتصاد على السكة، شرط أن تكون هدنة متكافئة لا تكون على حساب جهة دون أخرى.
الدولة الآن لا تستطيع أن تفرض منوال الإصلاحات الذي تريده على المنظمات الاجتماعية، إنْ كانت هذه الدولة تمتلك منوالا أو مقاربة تدافع عنها. فما يبدو إلى حد الآن، هو الاهتمام بالتغيير السياسي الحالم، والتمهيد له بهجوم لا يتوقف على الفساد واللوبيات.
هناك نقطة التقاء مشتركة يمكن الانطلاق منها في الحوار مع الإصلاحات، وهي مطالب صندوق النقد الدولي الذي يحث على إصلاحات عاجلة حتى يقدر على مساعدة تونس للخروج من أزمتها. وبعيدا عن المزايدة والشعارات القديمة، فإن مصيرنا مرتهن لمطالب الصندوق ولقروضه، ونحتاج أن نستمع لخبرائه ونتفاعل معهم، ونظهر جديتنا في الإصلاح. فلم يعد لدينا متسع من الوقت ولا هامش للهروب إلى الأمام.
بالتأكيد سنجد أرضية مشتركة بين رؤية اتحاد الشغل الذي يسعى للحفاظ على مكاسبه ومكاسب القطاع العام، وبين مطالب أرباب المؤسسات وإمكانيات الحكومة. المهم أن نتحرك لنضع الحد الأدنى من الإصلاحات بدل الانتظار الذي قد يوصلنا إلى نقطة لا تقدر فيها البلاد على الإيفاء بتعهداتها سواء خلاص ديونها، وخاصة توفير الرواتب لمئات الآلاف من الموظفين.
ونقطة الرواتب مهمة جدا، فهي مقياس وجود الدولة واستمرارها. الآن تتحايل الحكومات المتعاقبة على الوضع بالاستدانة مرة من الاتحاد الأوروبي وأخرى من الاتحاد الأفريقي، وثالثة من دولة خليجية. لكن الأسلوب القائم على المخاتلة والمناورة لن يستمر طويلا وستجد الدولة التونسية أن الحل في ترك الحيل خاصة أن المانحين الأجانب يرفضون توظيف أموالهم في خلاص الأجور وإعطاء المزايا والعلاوات أو المساعدات الاجتماعية الهادفة إلى شراء السلم الاجتماعي.
في الحوار ذي البعد الاقتصادي يفضل أن تبتعد الدولة عن البهرج والكلام الكبير وأن ترسل فريقا من الخبراء ليحاور خبراء اتحاد الشغل وخبراء اتحاد أرباب العمل. فالملف الاقتصادي لا يحتاج إلى كلام السياسيين ووعودهم وشعاراتهم، وعلى العكس فإن دخول السياسيين على هذا الحوار سيعرقله بالضرورة.
وبالتأكيد، فإن التقدم في الحوار الاقتصادي سيكون خير معاون في امتصاص الأزمة السياسية الحادة التي تعيشها البلاد، وهي أزمة لم يعد أحد قادرا على التحكم فيها بسبب تداخل عناصر كثيرة فيها وتعدد التحالفات.
لكن المهم في أي حوار ألا يقوم على النفي، وأن يتخطى جميع الفرقاء فكرة محاورة الذات والأنصار. ويمكن الاستفادة من تجربة حوار 2013 الذي نجح في تحقيق انتقال سياسي هادئ وسلس قبل به الجميع بالرغم من أنه فرض على حركة النهضة تسليم السلطة إلى حكومة وحدة وطنية بمهمة انتقالية دامت سنة هيأت المناخ لانتخابات رئاسية وتشريعية.
الاستمرار بالمراوغة من الرئاسة أو من الحكومة أو من الاتحاد لا يعني شيئا سوى أن البلاد ستترك لمصيرها، لا أموال ولا قروض حتى الاتفاق على رؤية جماعية ملزمة يصادق عليها الجميع.
الفرصة مواتية لقيس سعيد ليبدأ حوارا وطنيا يصب في صالحه، ويظهر أنه معني بالتجميع والبحث عن حلول للأزمات الاقتصادية والاجتماعية وليس فقط يفكر في تغيير النظام السياسي. فحوار مع المنظمات الوطنية التي رعت حوار 2013 وبعض المنظمات القطاعية الأخرى يمكن أن يقود إلى مناخ إيجابي سياسيا وشعبيا ويحقق الانفراجة المعهودة.
لكن الاستمرار في الشحن الخطابي من الرئيس ومحيطه، ومن المعارضين في نفس الوقت سيعني آليا دفع البلاد إلى حالة من التوتر القصوى قد تتحول إلى فوضى وعنف مثل ما يجري حاليا في موجة الحرائق، كل طرف سياسي يتهم الآخر بخلق هذا المناخ لتخويف الناس. ومن الطبيعي أن القضاء لن يصل إلى حل هذا اللغز السياسي، ذلك أن الأمر أبعد عن الحوادث المعزولة، إذ لا يمكن أن تتزامن الحرائق في أغلب المحافظات خلال يومين أو ثلاثة أيام.
ويمكن ملاحظة حالة التوتر القصوى لدى جمهور الكرة في الملاعب والصدام مع قوات الأمن، ففي الكثير من الأحيان يتم الصدام في شكل شرارة صغيرة، أو شعار أو صراخ. كما يمكن رصد ذلك في كثرة الجرائم التي تظهر تحديا للدولة واستهانة بالقانون، وموجات الهروب إلى الخارج في مغامرات تنتهي في الغالب إلى مآس..
ولأجل هذا كله تحتاج البلاد إلى هدنة سياسية مثلما تحتاج إلى هدنة اجتماعية.. تحتاج إلى أفعال ومبادرات ليرى الناس أن الوضع يتحسن، وأن ثمة أملا في الأفق بعيدا عن الشعارات والمفاهيم المستحدثة مثل الوعود بتأسيس “جمهورية جديدة” التي لن تعني شيئا للمواطنين طالما أن وضعهم الاقتصادي والاجتماعي يسير نحو الأسوأ.
وخلاصة القول أن البلاد لم تعد تحتاج إلى خسارة الوقت، تونس أهم من حسابات السياسيين وأجنداتهم وخططهم، والذي يقدر منهم أن يبادر للقطع مع حالة الفراغ فليفعل.
تحتاج البلاد إلى حوار يقطع مع الاستثمار السياسي ويستهدف أساسا وضع أساسات للحل الاقتصادي والاجتماعي، ذلك أنه لا الديمقراطية الشكلانية الاستعراضية عملت شيئا لإنقاذ الاقتصاد وحماية أوضاع الناس من مخلفات الأزمات، ولا الحكم الذي يراكم الصلاحيات عند جهة واحدة قد طمأن الناس على أمنهم وعيشهم.