حتى لا يلدغ العرب من الجحر التركي مرتين
طارق القيزاني
كان أول ما فعله الزعيم العلماني مصطفى كمال أتاتورك عند سقوط الخلافة العثمانية هو استبدال الحروف العربية بحروف لاتينية للغة المحلية، واستتبع ذلك ما يشبه ثورة ثقافية في بلاد الأناضول في مسعى حثيث للحاق بركب الدول الأوروبية.
كانت العلاقات بين تركيا والعرب والمشرق، في الأثناء، بالكاد تذكر طوال عقود من إعادة تأهيل تركيا الأوروبية برغم كل المنزلقات التي عرفها هذا البلد عبر الانقلابات العسكرية وتغوّل المؤسسات العلمانية حدّ الاستبداد، وبالرغم أيضا من حالة الفصام التي ظلت ملازمة لأجيال من الأتراك بسبب غياب التوافق الجمعي حول الهوية العثمانية في ظل جمهورية حديثة تريد أن تصنع لنفسها هوية جديدة تقوم على القومية التركية في مجالها الجغرافي الجديد والضيّق.
وظلّت المقولة راسخة منذ بدايات التأسيس للدولة التركية الحديثة، بأن “لا صديق حميما للتركي سوى التركي”، ردا على ما كان يشاع بين المؤرخين الأتراك من خيانة العرب للعثمانيين في الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى تفكك الإمبراطورية المهترئة، وهو ما كان يبرر القطيعة المتعمدة مع العالم العربي التي طالت حظر الآذان باللغة العربية في المآذن التركية حتى عام 1950.
لكن التفات تركيا إلى المشرق كان قد تزامن مع نهاية المطاف لسنوات من المفاوضات العقيمة ومطاردة الأوهام مع الاتحاد الأوروبي طلبا لعضوية تفتقد في تقدير المحور المناوئ لأنقرة، فيينا وبرلين وبودابست، للمعايير الموضوعية في مجال الحريات والقوانين والهوية الثقافية، فضلا عما خلفه الاحتلال العثماني لجزء من القارة العجوز من شروخ مستمرة في العلاقات بين الجانبين حتى اليوم.
عادت تركيا إلى المشرق. وسواء كان ذلك اضطرارا أم في سياق مراجعات دبلوماسية، فإن النفور الأوروبي هو ما عزز فعليا التراجع عن الإصلاحات في تركيا بالتزامن مع صعود لحزب العدالة والتنمية الإسلامي وبداية مخطط التضييق على المؤسسات العلمانية والجيش وإعادة بناء السلطة ومراكز النفوذ حول محور الرئاسة، عبر تعديلات دستورية متلاحقة للنظام السياسي.
لكن هل كانت حصيلة هذه العودة منذ نحو عقدين، أيا كان الحلف الذي اختارته أنقرة، يعتد بها في مجال التعاون المثمر والمجدي لشعوب المنطقة.
على عكس السياح العرب والتجار الذين يعرفون تركيا وأسواقها وقصورها شبرا شبرا، يحاول التركي العثماني إعادة استكشاف فنائه الخلفي بطموحات مختلفة ومشروعة في نظره بحكم التاريخ والدين، ليس فقط عبر صفقات السلاح واتفاقات الدفاع والتجارة غير المتوازنة ولكن أيضا عبر سياسة رابح في اتجاه واحد.
تركيا لم تكن تقيم وزنا للسيادة وحدود دول الجوار أثناء تلويحها الدائم بتحريك قواتها لتعقب الفصائل الكردية داخل سوريا والعراق ولم تتردد في فعل ذلك وفي فسح المجال للآلاف من مرتزقة العالم لعبور الحدود إلى الداخل السوري وحتى عقد صفقات لاستنزاف الموارد السورية في المناطق المحتلة. والخطر اليوم يهدد أمن كامل منطقة المتوسط وشمال أفريقيا بشأن اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع طرابلس كما هو الخطر العسكري الداهم عبر الأراضي الليبية أين يتم التحضير لصناعة مستنقع دولي.
وقد يكون حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان قد نجحا حتى الآن في صناعة حاضنة لتركيا الأردوغانية في أنحاء ممتدة من المنطقة العربية ومن بينها ليبيا، وفرتها لهم الأنظمة السياسية المرتبطة بتنظيم الإخوان المسلمين، لكن هذا النجاح يحمل في طياته بذور الفتنة والانقسام.
والخشية من تلك السياسات لها ما يبررها في ذاكرة العرب، فبخلاف حماية الموانئ في حوض المتوسط وتشييد الحصون الدفاعية في كبرى المدن لم يقترن دخول العثمانيين للبلاد العربية بنهضة علمية أو ثقافية مشهودة، وهناك مراجعات وخلافات مستمرة بين المؤرخين اليوم بشأن دوافع هذا الاحتلال وتوصيفه، بين من يصنفه ضمن دفع أذى المماليك في الشرق وإغارات القراصنة والأسطول الإسباني غرب المتوسط عن المناطق الإسلامية، وبين من يحصر هذا التوسّع حول هدف إلحاق المستعمرات العربية الجديدة وإخضاعها بالقوة لسلطة الباب العالي.
ولطالما كان تاريخ الحكم في قصور الباب العالي تقوم على الدسائس ونقض العهود وقطع الرقاب حتى داخل العائلة الواحدة. وليس معنى هذا نسفا لتاريخ مشترك بين العرب والأتراك يمتد إلى أكثر من 500 عام، وإنما ينظر إلى التاريخ للاتعاظ والتصحيح وحتى لا يلدغ العرب من جحر واحد مرتين.