حفتر واللعب على التوازنات بين موسكو وواشنطن
بعد أيام من لقائه في بنغازي مع قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا “أفريكوم”، وصل الجنرال خليفة حفتر إلى موسكو في زيارة تم الإعداد لها مسبقا، ويمكن اعتبارها اعتيادية ضمن الدورية السنوية لزياراته إلى العاصمة الروسية (دشنها منذ العام 2016) بهدف البحث عن الدعم في حربه مع الجماعات الإرهابية في شرق البلاد. كان يعلم آنذاك أن روسيا هي الدولة الكبرى العضو في مجلس الأمن التي يمكن أن تقف معه ضد كل مصنفات الإسلام السياسي من القاعدة وداعش إلى جماعة الإخوان المصنفة لديها كجماعة إرهابية.
حظي حفتر خلال الزيارة باستقبال من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الدفاع سيرغي شويغو، حيث تم التداول “حول الوضع في ليبيا والمنطقة”، وفق المصدرين الرسميين في موسكو وبنغازي، في إشارة إلى وجود تنسيق بين الطرفين على أعلى مستوى، خاصة حول قراءة التحولات الحاصلة والتطورات المرتقبة في دول الجوار الجنوبي الليبي وفي منظومة الساحل والصحراء التي تشهد أوضاعا لا يمكن فصلها عما يدور في الداخل الليبي منذ العام 2011.
ولعل دور الجنرال حفتر بات يتخذ أبعادا استثنائية بالنسبة إلى الجانب الروسي، ليس فقط في ظل مجريات الأحداث بالدول الأفريقية التي عرفت في الفترة المنقضية انقلابات عسكرية حدت من النفوذ الفرنسي بالأساس، وليس الأهم من ذلك هو التطور اللافت في السودان الذي تحول إلى مسرح لتصفية الحسابات مع موسكو من خلال استجلاب قائد الجيش عبدالفتاح البرهان للقوات الخاصة الأوكرانية مدججة بالطيران المسير بغاية استهداف مواقع قوات الدعم السريع بزعم ارتباطها بالجانب الروسي عبر مسلحي فاغنر، وهو ما تأكد من خلال لقاء البرهان بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، والذي اعتبره أغلب المراقبين مسعى لفتح جبهة ضد الحضور الروسي في أفريقيا انطلاقا من السودان قد يصل حريقها إلى شرق ليبيا.
قبل ذلك، وفي 22 أغسطس الماضي وصل نائب وزير الدفاع الروسي يونس بيك يفكوروف إلى بنغازي، وكان له لقاء مع الجنرال حفتر تم خلاله التطرق إلى آفاق التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، ومسائل العمل المشترك الأخرى، وفي 17 سبتمبر الجاري، عاد يفكوروف إلى بنغازي في إطار سلسلة الاجتماعات المكثفة حول تداعيات الفيضانات التي اجتاحت مدن الجبل الأخضر والساحل الشرقي حيث عبر عن التضامن الكامل للحكومة الروسية مع الشعب الليبي وقيادته في مواجهة هذه الأزمة، مؤكدا سعيها للمساهمة في تقديم الدعم المطلوب داخل المدن والمناطق المتضررة.
كان ذلك ضمن حراك روسي واضح في منظومة الساحل والصحراء التي تعتبر ليبيا جزءا مهما منها، وفي إطار واقع جديد تشهده المنطقة وتلعب موسكو فيه دورا بارزا مع انكفاء واضح للقوى الغربية، وخاصة فرنسا التي فقدت حضورها في دول محورية كمالي والنيجر، وتبحث في ليبيا عن فرصة لتعويض خسائرها، وهو ما يرفضه الروس، وما أكدوه للجنرال حفتر في مناسبات عدة.
زيارة حفتر هذه المرة إلى روسيا كانت متنوعة الاهتمامات، وبرز منها بالخصوص الجانب السياحي، حيث قام بزيارة عدد من المعالم التاريخية والحضارية من بينها مسجد كاتدرائية موسكو الذي التقى فيه برئيس الإدارة الروحية للمسلمين في روسيا رافيل جينوتدين ونائب وزير الدفاع يفكوروف ورئيس لجنة مجلس الدوما للشؤون الدولية ليونيد سلوتسكي. ذلك يعني أن الزيارة تم الإعداد لها مسبقا، وهي تأتي في إطار الزيارات الدورية التي يؤديها رجل برقة القوي إلى موسكو، والتي عادة ما تتمحور حول جملة الملفات المطروحة في سياق التعاون المشترك من الجانبين العسكري والسياسي.
هناك الكثير مما يجمع حفتر بموسكو، ومن ذلك تدريب قواته، وقطع غيار السلاح الذي تستعمله، وأغلبه، وبخاصة سلاح الجو موروث عن النظام السابق، ويعود إلى حقبة الاتحاد السوفياتي. وهناك الموقف الروسي المساند في مجلس الأمن، ومتانة العلاقات بين العواصم الداعمة للجيش وموسكو في سياق لعبة التوازنات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى حقيقة مهمة فرضتها مخرجات الأزمة الليبية منذ العام 2014 وهي وجود سلطتين تتنافسان على حكم البلاد، واحدة في غرب البلاد وعمادها الميليشيات، والثانية في شرقها وعمادها قوات المشير حفتر. ومن الطبيعي أن السلطتين لا تدوران في فلك دولي وإستراتيجي واحد، وإلا كانت القضية حسمت من زمان، ولكن التنافس على النفوذ بين القوى الكبرى، هو الذي أعطى لكل فريق سواء في طرابلس أو بنغازي، القدرة على استمرارية البقاء.
لم تقطع الولايات المتحدة جسور التواصل مع بنغازي رغم انزعاجها المعلن من وجود مسلحي شركة فاغنر الروسية الخاصة في عدد من قواعد شرق وجنوب ليبيا، وقد حاولت في مناسبات عدة الضغط على الجنرال حفتر لإخراج تلك القوات من بلاده ولكن دون جدوى، فنحن هناك نعود إلى مسألة الدجاجة والبيضة ومن الذي جاء أولا، فبينما تطالب سلطات طرابلس بإجلاء فاغنر يأتي الرد من بنغازي بضرورة إجلاء القوات التركية والمرتزقة السوريين أولا، وعندما يتم التوصل إلى حل وسط وهو الإجلاء المتزامن، ترفض القوى الفاعلة في المنطقة الغربية فكرة التخلي عن الأتراك وتعتبرهم عنصر توازن في مواجهة قوات حفتر، وتستعيد وقائع 2020 عندما نجح الطيران المسيّر التركي في طرد قوات الجيش من أبواب العاصمة.
وفي الوقت الذي تدعم فيه أنقرة حضورها في غرب ليبيا من خلال تمدد القاعدة البحرية نحو ميناء الخمس إلى جانب القاعدة الجوية بمنطقة الوطية بات من الصعب الحديث عن إجلاء مسلحي فاغنر، وكأن تقسيم النفوذ العملي يجري بالتوافق بين الروس والأتراك، فيما يحاول الأميركيون التأثير في المسار السياسي والإمساك بملفات النفط والأموال المجمدة وإعادة الإعمار مع العمل على تحقيق الانتخابات التي لن تجيء، والتي كان واضحا أن واشنطن لم تخسر فقط الرهان عليها في 2023 كما في 2021، وإنما كانت وراء تمهيد الطريق لعرقلتها بسبب عدم ثقتها في أن حلفاءها هم من سيفوزون بالحكم.
قبل أيام، أثنى قائد القيادة العسكرية في أفريقيا “أفريكوم” الجنرال مايكل لانغلي على “جهود القيادة العامة في مكافحة الإرهاب، وعلى حالة الاستقرار التي تشهدها المنطقة الشرقية والجنوبية لليبيا”، كان ذلك خلال زيارة أداها إلى بنغازي مصحوبا بالمبعوث الخاص السفير ريتشارد نورلاند إلى مكتب الجنرال حفتر في الرجمة، يقول البعض إن من بين أهم محاورها كان موضوع العلاقات مع روسيا وفاغنر والأوضاع في النيجر والسودان، فيما قال مكتب الإعلام التابع للقيادة العامة إن لقاء حفتر مع الوفد الأميركي تطرق إلى أهمية تعزيز التعاون المشترك لمكافحة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة.
ثناء المسؤول الأميركي يتجاوب مع حقيقة بيّنة، وهي أن قوات الجنرال حفتر نجحت بالفعل في ضمان الأمن والاستقرار بالمناطق الواقعة تحت نفوذها في شرق ووسط وجنوب البلاد، وبالأخص في منابع النفط والحدود الترابية وخاصة مع دول الجوار الجنوبي، وأنها اجتثت شأفة الإرهاب وقضت على الجماعات المسلحة وأنهت ظاهرة الميليشيات الخارجة عن القانون، وأنها تعمل تحت قيادة واحدة تأتمر بأوامرها، ومن الطبيعي أن هناك شركاء إقليميين في تكريس تلك الحقيقة على الأرض، وشريكا دوليا بارزا وهو روسيا.
خلال الأشهر الماضية، سعى الأميركيون لإقناع حفتر بترشيح أحد أبنائه للانتخابات الرئاسية في حال تنظيمها، وهم يعلمون جيدا أن النتيجة ستكون فشلا ذريعا، لكن الروس الذين يبدون أكثر اطلاعا ومعرفة بالتضاريس الاجتماعية في ليبيا، حذروه من ذلك، وسعوا في مناسبات عدة لتشكيل تحالف بينه وبين سيف الإسلام القذافي. المشكلة أن هناك معركة زعامة بين الطرفين، وأن الجنرال حفتر يرغب في أن يكون نسخة منقحة من الزعيم الراحل معمر القذافي، مع تأكيد واضح على موقع الأسرة، وأدوار أسرع وأكبر للأبناء، حضور صدام وخالد وبلقاسم اليوم تجاوز ما كان عليه حضور سيف الإسلام والمعتصم وهانيبال في العهد السابق.
رغم علاقة حفتر الوطيدة بالولايات المتحدة إلا أنه لا يثق بسياساتها ولا يطمئن لوعودها، وهو على معرفة كاملة بما تقوم به مراكز نفوذ الإسلام السياسي التي تشتغل ضده على أكثر من صعيد، وتحاول جره إلى القضاء، وتسعى إلى استعداء الإدارة الأميركية عليه وإلى إظهاره في صوره مجرم الحرب والقائد العسكري المارق عن القانون الدولي. كما أنه يعلم طبيعة تأثير لوبي الإخوان في ليبيا بالولايات المتحدة على مجريات الأحداث في طرابلس، وهذه القناعة لا تخص حفتر وحده، وإنما هي متداولة لدى أغلب الدول المؤثرة في المنطقة والتي تشكل محور الاعتدال العربي ونأت بنفسها خلال السنوات الماضية عن وضعية التبعية غير مضمونة العواقب للولايات المتحدة، واتجهت لبناء علاقات إستراتيجية مع القوى الصاعدة وبخاصة روسيا والصين. الجنرال حفتر سار في ذلك الاتجاه.
الظاهر من الصورة حاليا أن واشنطن مقتنعة بدورها في غرب ليبيا وبتأثيرها على عدد من الملفات الأساسية، ولكنها لا تريد معاداة رجل برقة القوي، وهي تحرص على الإبقاء على حالة التوازن إلى حين حصول متغيرات قد تكون أهم سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. أما روسيا فهي مرتاحة لحضورها في ليبيا تماما كما لحضورها في منطقة الساحل والصحراء، وهي ترى أن الوضع الحالي يكفيها لتكون مؤثرة بما فيه الكفاية.