خطوة تهز اتحاد الشغل التونسي
خطت الحكومة التونسية نقلة نوعية في مواجهتها لاتحاد الشغل الذي سيطر في الفترة التي تلت ثورة 2011 على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد. الخطوة تقوم على وقف التعامل بمبدأ التفرغ النقابي، أو ما يسميه قادة الاتحاد بالوضع على الذمة.
ويعني التفرغ النقابي أن يترك النقابي عمله الحكومي ويتفرغ لدوره النقابي، وأن تستمر الدولة في تمكينه من راتبه وتضيف إليه الزيادات والعلاوات التي يحصل عليها زملاؤه في المهنة التي ينتمي إليها.
وتضخمت هذه الظاهرة بعد الثورة وما تخللها من ضعف للدولة كشريك محاور لاتحاد الشغل، حيث عمدت الحكومات الضعيفة التي قادت البلاد لأكثر من عشر سنوات على استرضاء المنظمة النقابية بقبول كل طلباتها بما في ذلك استمرار ظاهرة التفرغ النقابي، التي تعني تفريغ موظفي الدولة وعلى حسابها وإعطائهم الفرصة ليهاجموها ويخططوا لإرباك المؤسسات الحكومية والوزارات بالاعتصامات والإضرابات والشعارات والمزايدات.
العمل النقابي في أصله عملية تطوعية يقوم بها النقابي خارج أوقات عمله، وليست تفرغا كاملا مع الحفاظ على الوظيفة الحكومية والراتب والمزايا التي يحصل عليها من يباشرون الوظيفة صباح مساء ويتعبون فيها.
وفيما يرى البعض أن التفرغ النقابي هو نوع من الفساد الذي تواطأت عليه الحكومات السابقة واتحاد الشغل لأنه يجيز تسليم أموال الدولة لمن لا يستحق، فإن القيادي في اتحاد الشغل سامي الطاهري لا يرى مبررا لطرح هذه القضية وكأنها سابقة ولا تحتاج إلى نقاشات.
واعتبر الطاهري في تصريحات لإذاعة موزاييك التونسية أن “الغاية من الأخبار المتداولة بخصوص توجه الحكومة نحو إلغاء إجراء التفرغ النقابي هو الضغط على اتحاد الشغل وخلق رأي عام مضاد على المنظمة الشغيلة”. وقال إن إثارة القضية هي “وسيلة تعتمد من كل الحكومات لتحجيم الاتحاد كلما وقع خلاف حول الترفيع في الأجور أو عديد المطالب النقابية الأخرى”.
واضح أن الطاهري قد فهم الهدف الذي يقف وراء التوجه لوقف العمل بفكرة التفرغ النقابي وهي تحجيم اتحاد الشغل. صحيح أن السلطة الحالية لا تتحدث عن الأمر، لكن التوجه واضح خاصة أن الاتحاد من خلال تصريحات مسؤوليه سعى في مرحلة أولى إلى الظهور بمظهر المتعالي على السلطة، وأنه لا يخافها، وأنها ستضطر إلى العودة إلى مربع التفاوض معه من موقع الضعيف.
لكن الصمت الرسمي على الاتحاد حمل معه مؤشرات ورسالة مبطنة منذ 25 يوليو 2021 أن الدولة لا تقبل أن تخضع لأيّ جهة أيا كانت حزبية أو سياسية، وأنها ترفض خرائط الطريق والمبادرات التي قدمها اتحاد الشغل للإيحاء بأنه يمتلك البدائل التي تقود البلاد إلى الاستقرار وكأن السلطة الحالية عاجزة أو ليست مؤهلة للقيادة.
وقبل خطوة وقف التفرغ النقابي سبقت أن وجهة السلطة رسائل خفيفة لاتحاد الشغل بتوقيف ومحاكمة بعض النقابيين الذين لم يستوعبوا بعد أن الدنيا قد تغيرت وأن السلطة الجديدة غير رخوة ولا تشعر بالضعف أو الخوف على عكس الذين سبقوها ممكن كانوا يرتجفون من تلويح الاتحاد بالإضراب مجرد تلويح.
ومن الواضح أن السلطة تقول لقيادة المنظمة النقابية إنه طالما أنكم تريدون الهجوم والضغط فلديها وسائلها للرد والهجوم، ولكن وفق القانون. ووقف العمل بالتفرغ النقابي يعني إفراغ النشاط النقابي من زخم كبير كان يوفره المتفرغون الذين ينتقلون إلى الجهات ويعقدون اللقاءات باستمرار للتوعية والتثقيف والشحن للتحرك والقيام بالاحتجاجات بأشكالها المختلفة، ويحضرون اللقاءات القيادية (المركزية) التي تستمر ليومين أو ثلاثة في فنادق راقية قريبة من العاصمة بهدف وضع خطط التحركات.
لا أحد سيجازف بالغياب عن وظيفته لحضور اجتماعات ولو كانت في أماكن مرفهة طالما أن الحكومة تهدد بالاقتطاع من الرواتب، وهو وضع سيقود إلى تقلص فعالية الاحتجاجات ونسبة المشاركة فيها بما في ذلك الإضرابات أو مقاطعة الامتحانات مثل ما حصل في موضوع نقابات الأساسي، حيث حجزت وزارة التربية رواتب شهرين للمئات من المدرسين ولم ترجعها إلى الآن بالرغم من محاولات النقابة، ما يجعل من الصعب على أيّ كان ولو كان نقابيا منتخبا أن يلجأ إلى مقاطعة الامتحان أو يرفض تسليم نتائج الامتحانات.
وبالتوازي تراجع الحكومة قوائم المنح والزيادات التي تمت في السنوات الماضية لترى إن كانت قانونية أم لا، وهل أن إقرارها يتماشى مع إمكانيات الدولة. وقاد التنافس بين النقابات، على مراكمة الزيادات والمزايا بما يفوق قدرة الدولة، إلى التضخم وأسهم في ارتفاع الأسعار وتدني قيمة العملة.
وقد يكون مسار قصقصة أجنحة اتحاد الشغل خطة من السلطة لإظهار قدرتها للقيادة النقابية، وخاصة أولئك الذين أطلقوا تصريحات متحدية لمسار 25 يوليو 2021 وللرئيس قيس سعيد شخصيا، ولكن النتيجة مهمة لأنها ستعيد الاتحاد للعب دوره الحقيقي الذي هو متابعة أوضاع العمال بالفكر والساعد والتفاوض مع السلطة على تحسين تلك الأوضاع، وأن يكون حوارا دائما وقائما على مقاربة “خذ وطالب” التي تعني التغيير التدريجي، وليس المقاربة الحالية التي تقوم على مقاربة “الآن الآن وليس غدا”.
لا أحد مع ضرب اتحاد الشغل أو تحجيم دوره، ولكن من المهم أن يكون دوره خادما لهدف تطوير الوضع في البلاد ومساعدتها على الخروج من أزمتها الاقتصادية سواء أكان هذا في صالح السلطة الحالية أو أيّ سلطة أخرى قادمة.
لم يعد الوقت يسمح بالمزايدة السياسية على السلطة ومطالبتها بأن تتدبّر أمرها لجلب التمويلات وضخها في زيادة الرواتب وإسكات المطالب التي لا تنتهي لقطاعات باتت تنافس بشأن من يحقق مكاسب أكبر من دولة بخزينة شبه خاوية.
يفترض أن تراجع قيادة اتحاد الشغل قطار المطلبية الذي لا يريد أن يتوقف عند أيّ محطة، فهي لا تنتزع الأموال من خزينة دولة نفط أو غاز إذا أنفقت لم تتأثر، وحتى الدول النفطية بدأت تتقشف وتراجع نظام الرفاهة القديم الذي يقوم على مقولة “أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب”، أي الإنفاق دون حساب وضع الدولة، وحسابات قطاعات أخرى، وفئات اجتماعية باتت أكثر تضررا من زيادات للرواتب تدفع إلى زيادة التضخم وإلهاب الأسعار.
التونسيون ليسوا ضد النقابة في المطلق، ولكنهم يعارضون هذا الصلف الذي يجعل من مهمة النقابة فرض الأمر الواقع على حكومة تدور من مكان إلى آخر لجمع الأموال لتحريك الاقتصاد والاستثمار وتوفير مواطن الشغل، فتجد نفسها مجبرة على تحويل ذلك الجهد إلى زيادات في الأجور غير مبررة وغير مقنعة ولا يتحملها الاقتصاد.