ربيع السودان وحربه… هل ركبنا سبيل ليبيا وسوريا واليمن
عبدالله علي إبراهيم
إذا كنت من بين من حذر السودانيين خلال ثورتهم في عام 2018 من مصير ليبيا وسوريا واليمن بعد ربيعها العربي، فدونك الحرب القائمة ليومنا حجة دامغة عليهم. فظل شبح خرائب التغيير بالثورة في هذه البلدان يخيم على خطاب الربيع السوداني، وبخاصة محاذير “نظام الإنقاذ” نفسه من تحويل البلد إلى مصائر هذه البلدان، إن أهلك السودانيون سلطانه.
ويخيم الشبح الآن بالطبع بقوة بعد اندلاع الحرب. فالمبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي جفري فيلتمان، خلال عامي 2021 و2022، خشي أن تتحول الحرب في السودان “إلى أمر مشابه لسوريا أو ليبيا، مع فارق أنه سيحصل في بلد عدد سكانه أكبر بكثير”. وعبر المدير السابق لمكتب المبعوث الأميركي للسودان كامرون هدسون عن مخاوفه أن يصبح السودان مثل “ليبيا تحكمه مجموعات من الميليشيات المسلحة، أو كسوريا”.
وسنأتي إلى صحة مماثلة السودان في خصائصه السياسية والعسكرية لهذه البلدان بعد أن نعرض للمخاطر التي انطوت أصلاً على اصطناع “حكومة الإنقاذ” لجيش ثانٍ هو “الدعم السريع”، حتى لا نرد الحرب بين الجيشين حصراً إلى الثورة، فقد كانت الحرب من ضمن مخاطر مدخرة للعسكرية السودانية بوجود جيش تاريخي مهني وجيش ضرار اصطنعه نظام سياسي بات يخشى من جيشه نفسه. فمتى أذنت أمة حديثة بفك احتكار السلاح، أي احتكار العنف البدني، فرقت دم أهلها بين القبائل المسلحة، إذا جازت العبارة. وهذا باب للحرب بين جيشي الضرار ضمن احتمالات عنف أخرى. فبعض الأمانات مما لا يشرك فيه.
ويروى عن الشيخ علي التوم، ناظر شعب عرب الكبابيش بشمال كردفان (ت 1932)، أنه زار حديقة الحيوان بلندن ضمن بعثة من زعماء السودان لتهنئة ملك بريطانيا بالنصر في الحرب العالمية الأولى، فاستعجب للجمل ذي السنامين فيها. فلم يرَ مثله قط من قبل، وهو الذي رعى الإبل طول عمره. فقال “يبدو لا بأس به، إلا أن ركوبه لا بد أن يكون شاقاً جداً”. وهكذا، الجيش ذو السنامين ربما خدم غرضاً لحاكم ما، ولكنه عصي على الركوب ومكلف.
بدا تشبيه السودان بليبيا وسوريا واليمن من حيث المصير، بعد ربيعه، نوعاً من الفأل السيئ أكثر منه علماً سياسياً. فلم نخضع خصائص السودان العسكرية السياسة بعد لنظرة مستقلة لنرى إن كان يصدق عليه ما صدق على ليبيا وسوريا واليمن، حتى نحذر دون المخاطرة بتغيير ما بنا بالثورة.
لم يبن القذافي في ليبيا جيشاً إلا بالاسم، فعلى رغم أنه توسع فيه نفراً، فإنه حل عقدة القيادة فيه بأحابيله في مثل تكوين “جماهيرية” الجنود التي تملك حق عدم إطاعة أوامر القيادة، علاوة على قيام التعيين فيه بمحاصصات قبلية. وأهمل الجيش بالكلية بعد هزيمته النكراء في تشاد. وألغى وزارة الدفاع نفسها ليرمي بثقله في حماية حكمه بالقوات الخاصة واحدة بعد أخرى حتى أنشأ الحرس الجماهيري في 1987-1988. وجعل القذافي على شبكاته الأمنية والعسكرية رجالاً من الدرجة الأولى في القرابة منه. وجاءت عناصرها الأخرى من القذاذفة، قبيلته، وحلفائها من مثل الورفلة والمغارثة.
ولما قامت الثورة في عام 2011 لم يكن بليبيا جيش بالمعنى المعروف. وملأت الفراغ الفرق الثورية المسلحة سيئة الظن بالجيش لخوفهم من أن ينقلب عليهم. ونتيجة لذلك لم تشرع قوى الثورة التي لم تكن لها قيادة مركزية، في بناء منظومة عسكرية وأمنية. وبذلك صار السلطان في الدولة لهذه الفرق تتنافس فيما بينها في السيطرة على مرافق الدولة، وفي حيازة الأراضي، وجني المنافع لتمويل نفسها. فاستباحت، حين توحدت في “معركة الكرامة” ضد قوات حفتر، الذي هو جيش بأمره “البنك الوطني” لتصرف على نفسها صرف من لا يخشى الفقر.
من جهة أخرى، سادت الثنائية العسكرية السورية منذ عهد حافظ الأسد. ففي يومنا الراهن تجد الفرقة الرابعة، بقيادة ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد، نداً، بل خصماً للجيش. وهو وضع يعود إلى أيام حافظ الأسد الذي أنشأ سرايا الدفاع بقيادة أخيه رفعت الأسد الذي ما لبث أن انقلب عليه في عام 1984، وأنشأ في الوقت نفسه الفرقة الرابعة التي يقودها الآن ماهر الأسد. وقامت الفرقة الرابعة والسرايا بتأمين دمشق وحماية النظام من أعدائه، كما قام الحرس الجمهوري الذي يقوده الآن بشار نفسه. وفي ظرف سوء ظن النظام بجيشه، الذي ضربته انقسامات الضباط السنة، توسعت الفرقة الرابعة في أرجاء البلاد بعد الحرب. وصارت لها اليد العليا على الجيش الذي داخلته الميليشيات، وأنهكه طول الحرب.
وتكونت الفرقة الرابعة من أربعة ألوية وثلاثة أفواج من المدرعات وسرايا تخصصية فنية منها الكتيبة الكيماوية التي لا تجدها في الجيش نفسه. وللفرقة سلاح طيران ومنظمة صواريخ ومصانع للباس العسكري. وتشكلت في داخلها كتيبة معروفة بالانتحارية مؤلفة من 660 عنصر لتلافي الأوضاع بعد انهيار النظام متى سقط، مما جعلها جيشاً كاملاً من 16 ألف عنصر و500 دبابة ومصفحة، وجهاز أمن مستقل غزير العدد.
وتدربت الفرقة في حرب المدن التي لا يحسنها الجيش. وعقائدية الفرقة لا خفاء لها. فتبلغ نسبة العلويين في قيادتها وقاعدتها 95 في المئة، مما يجعلها علوية في الصميم. وعليه فهي أداة علوية مرتبطة بالسلطة بشكل مباشر ووثيق. وتلقى الدعم الإيراني بسند من “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله” اللبناني في عملياتها. وضربت الثنائية القبائلية جيش اليمن منذ انتصار صالح في الحرب الأهلية في عام 1994، وحله جيش الجنوب اليمني. شرع بعدها في تقوية الحرس الجمهوري وبناء جيش العائلة مع التخطيط في عام 1991 لتوريث ابنه من بعده. فجعل رجالاً من قراباته في الدرجة الأولى على رأس الحرس الجمهوري تحت قيادة ابنه أحمد صالح، واحتلت قبيلته سنحان (واحد في المئة من السكان) الغلبة فيه.
ولم تلق إجراءات صالح في توريث ابنه قبول كل سنحان، فانقسم الجيش إلى مناصر لصالح وإلى آخر مناصر لعلي محسن الأحمر. فتكون جيش صالح من الحرس الجمهوري والقوات الخاصة وقوات مكافحة الإرهاب والقوة الجوية (بقيادة أخيه). وجعل قيادات كل هذه الوحدات لسنحان.
ولم يوفر صالح حيلة لإضعاف جيش الأحمر، فبعثهم ما بين عامي 2004 و2010 ليحاربوا الحوثيين بغية إهلاكهم. وأخلى الجيش من قواعد المأسسة ليفصله عن السلطة التنفيذية. وأضعف الجيش بحصره في صنعاء ليترك الأرياف لقوات قبائلية، مما عكس ضعفاً احتلت به إريتريا جزيرة حنش في ديسمبر (كانون الأول) 1995.
وجعل لنفسه حق تعيين أفراد الجيش وترقياتهم، وتوزيع الأسلحة على أفرعه، كما جعل لزعماء القبائل حصصاً في الجيش ينتخبون لها نفراً من عشيرتهم، بل اتسمت وحدات الجيش نفسها بالقبائلية. فتقوم وحدة خالصة لقبيلة يكون زعيم القبيلة أميراً عليها. وينطبق الأمر نفسه على جيش الأحمر. وأنشأ كل منها أحلافاً في الحركة المدنية السياسية مثل حلف الأحمر مع السلفيين.
ولما قامت الثورة على صالح في مارس (آذار) 2010 وقف الأحمر معها فحمى اعتصاماتها. وانتهى الأمر بمبادرة خليجية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 لإصلاح عسكري يوحد الجيشين.
القول إن للحرب الناشبة اليوم في السودان مآلاً سبقت إليه ليبيا وسوريا واليمن، ولم يتحسب له الربيع السوداني، لا يراعي الفروق بين السودان وأوضاع تلك البلدان السياسية والعسكرية. فواضح من استعراضنا لأوضاع هذه البلدان تباينها عن أوضاع السودان، فقد قامت الثورات في تلك البلدان وقد انتدبت نظمها الحاكمة جيوشاً قبائلية (اليمن وليبيا) أو عقائدية (سوريا) توطدت على حساب الجيش الوطني. ولم يشذ “نظام الإنقاذ” في البحث عن جيش آخر غير الوطني ليحميه من غوائل الهبات الشعبية عليه، أو حتى تمرد جيشه الوطني، ولكن “حكومة الإنقاذ” لم تبلغ بهذه العملية مبلغاً استضعف الجيش الوطني استضعافاً أخرجه من الميدان. فقامت الثورة في ليبيا عملياً بغير جيش لتسد الجماعات المسلحة مسده، كما فقد الجيش السوري نفسه خلال حربه ضد الثورة لتعلو الفرقة الرابعة عليه.
وقامت الثورة في اليمن والجيش جيشان، سرعان ما تواجها، كل على طرف منها. فلم يقع في أي من هذه البلدان تحالف بين الجيشين، الوطني والميليشياوي، كما في السودان. فلقيت الثورة، الجيش السوداني والدعم السريع حليفين تعاطيا معاً مع سياساتها، بما في ذلك الانحياز لها مع تبييت النية للقضاء عليها، كما حدث أخيراً في انقلابهما على الحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
وكان منتظراً اندلاع الحرب الدائرة اليوم حتى لو لم تقم الثورة، فركوب الجمل ذي السنامين غير مريح، كما قال ناظر الكبابيش. فكان السنامان في سكة تصادم لا محيص عنه. فالجيش من يومه الأول لم يقبل مهنياً بقوات الدعم السريع كياناً في داخله، ولكنه استسلم لوجودها خارج حوشه، نزولاً عند إرادة الرئيس المخلوع عمر حسن البشير الذي صار القائد المرجعي لها. فالدعم السريع، بحسب قانونه، لا يأتمر بأمر الجيش إلا في حالات الطوارئ. وظل محمد حمدان دقلو، مؤسس الدعم السريع، قوي الإيمان والعزيمة حتى قبل الثورة بأنه جيش ثانٍ لا ميليشيات تنطوي صفحتها يوم تسريحها. فموقفه من الدمج في الجيش اليوم كان موقفه دائماً. ولم يألُ جهداً في بنائه جيشاً يغالب.
لقد وفرت الثورة للجيش فضاءً سياسياً ليعالج مسألتين مؤرقتين له ولشعبه في سياق الإصلاح العسكري والأمني. فالمسألة الأولى هي مكوثه الذي طال سدى في الحكم، لنصف قرن منذ استقلالنا في عام 1956. أما المسألة الثانية فهي التخلص من جيش الضرار الذي قبل وجوده على كره. وكان شعار هذا الإصلاح “العسكر للثكنات والجنجويد، أي الدعم السريع ينحل”.
ولكن لم يسمع الجيش من الثورة، بل عقد تحالفاً مضرجاً ضدها مع الدعم السريع، فوطنها على قدم المساواة في الترتيبات السياسة العاقبة للثورة، وغض الطرف عن دبلوماسية الدعم السريع واقتصاده اللذين راكم بهما موارد الحرب، وأذن له بمعسكرات موازية لمعسكراته، بما في ذلك منحه برجاً داخل قيادته العامة.
وتأخر طلب الجيش دمج قوات الدعم السريع، وحين فعل عرف أنها قوة لم تنشأ للحل، وإنما جاءت لتبقى. واضطره ذلك إلى خوض هذه الحرب الضروس دفاعاً عن أمانته الوطنية والمهنية التي كثيراً ما ضل عنها جزافاً إلى دست الحكم. ولا يدري المرء إن كان الجيش احتاج إلى هذه المحنة التي تحدق به ليعود أدراجه للثكنات في خاتمة الأمر: “كما كنت” في مصطلحه.