زيارة قيس سعيد إلى الصين ترسم حدود الاتجاه شرقا
يقارن الكثير من التونسيين الأشياء بمنطق إما أبيض أو أسود، ليس هناك منطقة وسطى من أيّ لون، فأن يذهب الرئيس قيس سعيد إلى الصين، فهذا يعني آليا أن تونس صارت في صف الصين، وإذ زار تونس وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف، فهذا يعني أن تونس أدارت ظهرها للعلاقات الاقتصادية مع الغرب.
المصالح لا يمكن التعامل معها بالأمزجة. والدولة تجد نفسها آليا في قلب معادلة تقوم على تنويع العلاقات، وليس كسرها، والرهان على بدائل خاصة بالنسبة إلى دولة لا تمتلك عناصر قوة اقتصادية مثل النفط أو الغاز. يمكن لدول مثل الإمارات والسعودية الحديث عن تنويع الشراكات وستجد اهتماما كبيرا سواء ممن هي منزعجة من أدائهم أو ممن تريد أن تفتح معهم صفحة جديدة.
بالنسبة إلى تونس الأمر مختلف، فهي من تبحث عن الاستثمارات، ولو بالحد الأدنى، وهي من ستعرض مشاريعها على الشركاء المفترضين خاصة الصينيين. وطبعا الصين دولة اقتصادية رأسمالية كبرى تبحث عن المكاسب أينما وجدتها، وليست دولة ماو تسي تونغ التي يمكن أن تفكر في الاستقطاب الأيديولوجي أو في مكافأة من ظلوا على ولاء لها منذ أن كانوا تلاميذ في الثانوي أو في مراحل الجامعة.
وليست أيّ دولة يمكن أن تكون جزءا من الشراكة مع الصين، لنتذكر موضوع الجزائر وكيف عرضت الحصول على عضوية مجموعة بريكس، والجزائر بجلالة نفطها وغازها قيل لها إن اقتصادك لا يمتلك المجموع الذي يتيح له دخول كلية بريكس. صحيح هي صديق مقرّب من الصين وروسيا، وهي صديق بما تنفق وما تقدم من مشاريع للشركات الصينية أو للسلاح الروسي، لكن الحق حق، والمصالح لا تحتمل المجاملة ولا النفاق ولا التمني. لم يراع الصينيون والروس أن الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون قد تحدث للجزائريين معتبرا أن العضوية تحصيل حاصل، ولا عرضه بضخ مليار ونصف مليار دولار في بنك بريكس.
وكان الرئيس الجزائري واثقا من قبول مطلب بلاده. وقال، في مقابلة مع وسائل إعلام محلية، إن “الصين وباقي الدول الفاعلة في مجموعة بريكس، على غرار روسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل، تدعم انضمام الجزائر إلى هذا القطب الجديد”.
الفكرة من وراء المثل الجزائري أن الصين ليست درويشا (أو سيدي تاتا كما يقول التونسيون)، وأنها لا تهتم بمن يغضب من الغرب أو يريد لي الذراع مع الصناديق المالية الدولية، هي تهتم فقط بما عندك، وبما ستفيدها. مازال البعض منا يتحدث عن الصين بثقافة أيديولوجية طفولية قديمة ماتت مع الحرب الباردة، ومع الثورة الثقافية قبل أن تفضي إلى إنتاج دولة وطنية رأسمالية كبرى تأتي على الأخضر واليابس.
وبالنتيجة، فإنه من الصعب على تونس أن تتجه كليا إلى الشرق والتشفي من أوروبا التي لم تدعمها بما يكفي، وذلك لاعتبارات منها أن اقتصاد البلاد مبني أساسا على العلاقات مع الغرب، وبالذات مع أوروبا، ويدها العاملة المتخصصة تجد سهولة في الاندماج في فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا، لكن الشرق لا يوفر لها هذه المزايا، وشركاتها اندمجت كليا في النظام الاقتصادي الغربي. من الممكن أن تنوع تعاملاتها، لكن لا يمكنها أن تقوم بقطيعة تامة.
بالنسبة إلى روسيا، فهي تقدر فقط على تقديم السلاح أو التعاون الأمني والعسكري، وهذا لا تحتاجه تونس لأن شراكاتها الأمنية والعسكرية غربية بالأساس، ومن الصعب تغيير العقيدة الأمنية والعسكرية بين يوم وليلة. ربما تحصل منها تونس على النفط، لكن الأمر معقد، فالنفط والغاز الروسيان واقعان تحت العقوبات الغربية، ولا يمكن الحصول عليهما من دون تحدي تلك العقوبات.
الصين بدورها تستثمر في النفط والغاز والمعادن، وتونس لا تمتلك لا هذا ولا ذاك. تبقى مسألة القروض، وهي معقدة لأن الصين تطلب رهونا مقابل قروضها، رهن ميناء أو مطار أو ممتلكات خاصة بالدولة المعنية، والرهون تتيح لها امتلاك تلك المؤسسات في حال عجز الدولة عن التسديد.
هذا النظام من القروض لن يقبل به قيس سعيد الذي رفض شروط صندوق النقد لأنه يطلب منه التقشف والتفويت في مؤسسات حكومية لمستثمرين خواص محليين، فكيف سيقبل بالتفويت في معالم دولة مثل مطار قرطاج أو النفيضة أو ميناء حلق الوادي.
تنويع الشركاء وارد، لكن مع من وماذا ستقدم تونس، وكيف تفكر بعيدا عن فكرة القطيعة، وافتعال المعارك؟
تريد تونس تنشيط بعض القطاعات مثل السياحة أو الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال اتفاقيات مع دول إقليمية مثل إيران وتركيا ودول الخليج، مثلما كان يفعل الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، والزيارة إلى الصين تأتي في هذا السياق.
ودون مبالغة في تحميل الزيارة ما لا تحتمله، فهي ليست زيارة دولة بشكل مستقل، فقط كانت جزءا من مؤتمر اقتصادي عربي – صيني كبير، وحضر فيه زعماء عرب آخرون ووزراء خارجية وشخصيات أخرى متخصصة في المجال.
وهذا الأمر يعني أن الزيارة لن تخرج باتفاقيات ثنائية واضحة ومحددة كما يطالب بذلك المناوئون لقيس سعيد من معارضة اختصت طوال عمرها في إحصاء الأخطاء بدل البناء، تلك التي حاولت التقليل من الزيارة ومن رمزية تونس وأهميتها، ووظفت اللقاء الذي جمع الرئيس التونسي برئيس الوزراء الصيني لي جيانغ للإيحاء بأن اللقاء ليس في قيمة تونس، وأن ثمة تعمّدا في تهميش قيس سعيد، وأن قيمته من قيمة رئيس الوزراء قبل أن تكذبهم الوقائع بعد لقاء الرئيسين الصيني والتونسي.
لم يكن هناك استعداد مسبق من تونس ولا الصين لتوقيع اتفاقيات، فالمناسبة عامة، وليست زيارة بأهداف واضحة من بينها تقديم العروض ومشاريع الاستثمار وفرصه، وهو ما يفسر أن البيان المشترك الذي تلا لقاء الرئيس سعيد بشي جينبينغ كان تعبيرا عن اتفاق نوايا مثل “وسيعمل الطرفان سويا على تعزيز التعاون في بناء الحزام والطريق بجودة عالية والاستفادة من المشاريع الإقليمية والثنائية المنجزة في إطار هذه المبادرة، والحفاظ على سلامة المشاريع”.
ووفق البيان المشترك الذي نشرته صفحة الرئاسة التونسية على فيسبوك فقد “أكد الجانب الصّيني التزامه بمواصلة دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية في تونس (..) لاسيما في قطاعات الصحة والبنية التحتية والطاقة والنقل والبحث العلمي والفلاحة”.
وجاء في البيان أيضا حديث عن “تعزيز تبادل الخبرات في مجالات الإدارة والحوكمة، وتعميق التبادل في المجال البرلماني والهيئات التمثيلية الرسمية المحلية، وتوسيع التعاون المثمر في مجالات البنية التحتية والاقتصاد والتّجارة والاستثمار والطّاقات المتجدّدة والتكنولوجيا والتعليم العالي والبحث العلمي والقطاع السياحي”.
لقد أعادت زيارة الرئيس التونسي إلى الصين النقاش بشأن فرص تونس في الاتجاه شرقا، لكنها لم تجب، أو لم تتعرض بأيّ شكل للبدائل التي يمكن أن توفرها بكين وتتيح لتونس الرد على تلكؤ الغرب في دعمها، وعلى شروط صندوق النقد القاسية، وهو ما يعني أن ما يقال هنا وهناك على ألسنة بعض السياسيين والنشطاء هو تنفيس عن مشاعر أكثر منه مقاربة تحليلية لحقيقة الاتجاه شرقا وواقعية الحديث عن قطيعة مع غرب تفرضه علينا الجغرافيا والتاريخ.