زيارة ليفي بين الإقليم الرابع وطموحات باشاغا
الحبيب الأسود
جدل واسع أثارته زيارة هنري برنارد ليفي إلى غرب ليبيا، وأبرز ما أكدته أن مشاريع عدة متناقضة تدار تحت سقف واحد، وأن حكومة فايز السراج أثبتت مرة أخرى أنها منقسمة بين مسارات عدة: الأيديولوجي الإخواني، والجهوي المصراتي، والمصلحي المالي والإقتصادي والميليشياوي، والبراغماتي الذي يحاول الجمع بينها.
يوم السبت، وصل ليفي في طائرة خاصة مصحوبا بعدد من المرافقين إلى مصراتة التي منحته حق المواطنة في العام 2011، ليتحرك وفق برنامج تم إعداده سلفا بالاتفاق مع عدد من شخصيات المدينة ذات النزعة الجهوية، وبالتنسيق مع وزير الداخلية المفوض بحكومة الوفاق فتحي باشاغا، الذي يخوض حاليا معركة “الزعامة” في مواجهة فايز السراج، ويعمل على استبعاد رجل مصراتة الأكثر هدوءا وعقلانية أحمد معيتيق من المشهد ليحل محله كمرشح المدينة لتصدر الحكم في طرابلس بدعم تركي واضح.
أشعلت الزيارة غضبا في صفوف أغلب الليبيين، فليفي الذي كان عراب انتفاضة 2011، وأبرز الدافعين للتدخل الخارجي والمدافعين عنه من خلال علاقاته الوطيدة بالرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، والذي كشف الكثير من التفاصيل المهينة عن أمراء الحرب وقادة التمرد ورجال الأعمال الفاسدين وهواة السياسة المغامرين، من خلال كتابه “الحرب دون أن نحبها”، بات يمثل رمزا لما يسمى بالربيع العربي بكل نتائجه الكارثية، ومنها ليبيا التي تعرضت خلال السنوات التسع الماضية إلى أكبر عملية سطو مسلح، ونهب وفساد وتدمير للمجتمع، لتسقط مؤخرا في قبضة الغازي التركي الساعي إلى وضع يده على مقدراتها وثرواتها ويحاول أن يجعل منها منصة لأهدافه التوسعية في شرق المتوسط وشمال أفريقيا بما يهدد باندلاع حرب إقليمية على أراضيها.
الغضب الشعبي شمل مختلف أرجاء ليبيا بما في ذلك مدينة مصراتة ذاتها، لكن منظمي الزيارة من الجهويين الراديكاليين ورجال الأعمال كان لهم رأي آخر، فهم يهدفون إلى الاستفادة من علاقات ليفي في دوائر السياسية الفرنسية والإسرائيلية، ومن قلمه وكتاباته في صحيفة “وول استريت جورنال” الأميركية، و”باري ماتش” في فرنسا، والمنصات الإعلامية وجماعات الضغط التي يتحرك ضمنها، ولوبيات المال والنفط والغاز وإعادة الإعمار التي يرتبط معها بعلاقات متينة من موقعه كواحد من أبرز منظري ثقافة النهب الممنهج.
يمكن تلخيص أهداف الزيارة في ثلاثة أمور أساسية: أولها تشويه صورة الجيش الوطني وقيادته العامة، وهو ما يتبين من خلال نقله إلى مدينة ترهونة للاطلاع على ما يقال إنها مقابر جماعية لا تزال الشكوك تدور حول حقيقتها، حيث أنها وموضوع زرع الألغام الأرضية جنوبي طرابلس، كانا وفق مصادر عدة، من ضمن مسرحيات الغزاة الأتراك ومرتزقتهم لتأليب الرأي العام الداخلي والخارجي ضد القوات المسلحة بقيادة المشير خليفة حفتر، وللتغطية على جرائم حقيقية ارتكبتها جماعات المرتزقة في المنطقة الغربية التي انسحب منها الجيش.
والأمر الثاني هو الدفع نحو مشروع يتم الترويج له منذ مدة في كواليس القرار بمصراتة وتتبناه قطر وتركيا، ويتمثل في إضافة إقليم رابع إلى مخطط التقسيم الفيدرالي لليبيا إلى جانب الأقاليم التاريخية: طرابلس وبرقة وفزان، هو إقليم مصراتة على أن يضم مدن الخمس وزليتن وسرت وبني وليد وترهونة وصولا إلى الجفرة، وبالتالي يحصل على نصيب وافر من ثروة الهلال النفطي، وموقع إستراتيجي جنوبي للمتوسط.
ويقدم زعماء مصراتة الجهويون أنفسهم على أنهم يمثلون عنوان المرحلة القادمة والأكثر قدرة على الحكم والممارسة السياسية والتجارة والانفتاح على العالم والتعاطف مع اليهود الليبيين الذين غادروا البلاد سواء نحو إسرائيل أو نحو أوروبا والولايات المتحدة، وصولا إلى التطبيع مع تل أبيب، زاعمين أن مشكلة ليبيا تكمن في أن حكامها منذ الاستقلال كانوا من العرب البدو، سواء الملك إدريس أو القذافي، وأنهم يمثلون البديل “الحضري” القادر على تنفيذ كل ما يطلبه “الأصدقاء”.
أما الأمر الثالث، فهو الترويج لشخصية فتحي باشاغا وترشيحه لرئاسة المجلس الرئاسي، بالتزامن مع الكشف عن خلافات بينه وبين فايز السراج، الذي لم يعد مرغوبا فيه من قبل الأتراك والقطريين والإيطاليين وجانب من الإدارة الأميركية، بعد أن نفذ المطلوب منه، وأمضى على وثيقة الإذعان لرجب طيب أردوغان.
ومما يؤكد ذلك، أن الشخصية الوحيدة في طرابلس التي اجتمع بها ليفي هي فتحي باشاغا، الذي ترشحه مدينته مصراتة وبدعم إخواني ليتصدر المشهد خلال المرحلة القادمة، ويبدو أن السراج أدرك ذلك، فبادر بإصدار بيان للرأي العام، جاء فيه إن المجلس الرئاسي لا علاقة ولا علم له بالزيارة ولم يتم التنسيق معه بشأنها، وأنه اتخذ إجراءاته بالتحقيق في خلفية هذه الزيارة لمعرفة كافة الحقائق المحيطة بها، مؤكدا اتخاذ إجراءات قانونية رادعة بحق كل من يدان بالتورط في هذا الفعل الذي يعد خروجاً على الشرعية وقوانين الدولة.
لكن باشاغا بصفته وزيرا للداخلية اتهم منتقدي زيارة ليفي، ومن بينهم السراج ورئيس مجلس الدولة الاستشاري خالد المشري، بأنهم يستغلون الأحداث لتصفية حسابات سياسية، زاعما أن “حرية الصحافة والإعلام واحدة من أعمدة الدولة المدنية الديمقراطية، وحق الاعتراض على أي زيارة مكفول للجميع، ولا وصاية على الرأي العام، رغم استغلال بعض الأطراف للأحداث بغرض تصفية حسابات سياسية ضيقة”.
يعتبر برنارد ليفي عراب الخراب حيثما حل، هو أستاذ فلسفة وصحافي وكاتب فرنسي، ويقدمه البعض على أنه مفكر ليبرالي، ينحدر من عائلة سفاردية يهودية ثرية في الجزائر، متعصب لإسرائيل، طغت عليه صفة الناشط السياسي منذ بداية سبعينات القرن الماضي، وقد استطاع أن يجعل من هذه الصفة مدخلا لعمله الصحافي الذي أعطاه بعدا مختلفا بالظهور في صورة أحد رموز ما يسمى بالفلسفة الجديدة، واستطاع من خلال الثروة التي ورثها عن أسرته أن يهيئ لنفسه الطريق لخوض مغامرات عدة على مستوى العالم، وأن يكون أحد أبرز داعمي الليبرالية المتوحشة، وأحد أهم منظري التدخل الغربي في شؤون دول العالم الثالث معتبرا إياه أمرا مشروعا.
كشفت زيارة ليفي عن حقيقتين: أولاهما أن هناك حالة من التخبط والانقسام في مراكز القرار داخل سلطات غرب ليبيا، وأن خلافا يضربها ما أفرز حالة تشنج في الفعل ورد الفعل، وثانيتهما أن هناك سلطتيْن فعليتين هما سلطة مصراتة بميليشياتها وداعمها التركي وتمكنها من المؤسسات السيادية وسلطة فايز السراج المهترئة والتي تكتشف في كل مناسبة أن رياحا تعصف بها من كل الجهات دون أن تكون لها القدرة على تحصين نفسها من تأثيراتها.
الأوبزرفر العربي