عالم يبحث عن نظام جديد
خيرالله خيرالله
يطوي دخول روسيا أوكرانيا عسكريا صفحة في العلاقات الدوليّة في ظلّ إدارة أميركيّة تكتفي بالتفرّج على ما يدور في العالم. سيكون على العالم البحث عن نظام دولي جديد مبني على نظام سقط قبل أن تتبلور ملامحه. كان مفترضا أن يكون هذا النظام، الذي لم تتبلور ملامحه، نظام القطب الواحد بزعامة الولايات المتّحدة. لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث. ستسعى الولايات المتحدة ومعها أوروبا إلى التعاطي مع ما فرضه فلاديمير بوتين في أوكرانيا الدولة المستقلّة التي لم يستطع أحد حمايتها.
في مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين، كان الأمل في قيام نظام دولي مختلف في عالم تسود فيه مبادئ الحرّية والعدالة، خصوصا بعدما تحرّرت دول أوروبا الشرقيّة من الهيمنة السوفياتيّة. بقيت مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين محصورة، إلى حد كبير، بأوروبا التي توسعت بفضل الاتحاد الأوروبي، لكنّها باتت الآن في مواجهة تحديات جديدة.
ما حصل في أوكرانيا مخيف جدا. يعود ذلك إلى غياب أي رادع للعدوانيّة الروسيّة ورغبة فلاديمير بوتين في فرض أمر واقع على الأرض بالقوّة العسكرية وبفضل ما يمتلك من صواريخ وقنابل نووية. لعلّ أخطر ما في الأمر، أنّه كان في استطاعة الرئيس الروسي تحقيق جزء أساسي من مطالبه في أوكرانيا بمجرّد حشد قوّاته على حدودها. كان العالم مستعدا للأخذ والردّ مع الكرملين، بما في ذلك النظر في امتناع أوكرانيا عن دخول حلف شمال الأطلسي (ناتو). لكنّ السؤال – اللغز يظلّ لماذا كلّ هذا الإصرار لدى الرئيس الروسي على تغيير النظام في أوكرانيا وإلحاقها بروسيا بالقوّة؟
مع رجل مثل بوتين يمكن توقّع كل نوع من المفاجآت، خصوصا أن أميركا ضائعة وأوروبا غائبة… أما الصين فهي تعتبر نفسها المستفيد الأوّل من كلّ ما يدور في هذا العالم العجيب الغريب
قد يكون الجواب في أنّ بوتين أراد تعويد العالم على التعاطي مع روسيا من منطلق جديد يتلخص بعبارة أنّ الاتحاد السوفياتي لم يمت. مع سقوط أوكرانيا عبر قوات دخلت من روسيا ومن بيلاروسيا في آن، عادت روسيا على تماس مباشر مع دول مثل بولندا وهنغاريا وسلوفاكيا ورومانيا ومولدافيا. لا شكّ أن هذه الدول ستعيد حساباتها في ضوء ما حل بأوكرانيا من جهة واستعداد الرئيس الروسي للتسبب بحرب عالميّة جديدة.
ثمّة شرعية ما زال بوتين يبحث عنها داخل روسيا نفسها. يعرف الرجل تماما مدى قوّة الشعور القومي لدى الروس. من هذا المنطلق لا يتوقف عن تذكير الشعب الروسي بتاريخه العظيم وأمجاده مع تركيز خاص على أوكرانيا حيث لا ينقصه سوى العودة إلى رفع شعارات البعث السوري الذي تعاطى مع لبنان بصيغة “شعب واحد في بلدين”. فهل تثبت الأيّام المقبلة أنّ الشعب الأوكراني لا يميّز نفسه، بأكثريته، عن الشعب الروسي؟
في كلّ الأحوال، تبيّن قبل كلّ شيء أن أوروبا مفككة وأنّها لا تمتلك أيّ أنياب تمكّنها من مواجهة روسيا عسكريا وذلك على الرغم من أنّ أوكرانيا ليست عضوا في حلف شمال الأطلسي. أكثر من ذلك، لا وجود حاليا لزعماء أوروبيين. ألمانيا نفسها تبدو ضائعة في غياب أنجيلا ميركل ووجود مستشار جديد اسمه أولاف شولتس يعرف تماما مدى اعتماد بلده على الغاز الروسي. أمّا فرنسا، فقد فقدت توازنها منذ فترة طويلة. كان جاك شيراك آخر رئيس فرنسي يمتلك شيئا من ملامح الزعامة…
ستكون حاجة إلى بلورة نظام دولي جديد في عالم تسوده الفوضى. لا شكّ أن الأمم المتحدة فقدت الكثير بعدما تبيّن أنّ لا دور لها في معالجة أزمة في حجم الأزمة الأوكرانيّة. تكاد الأمم المتحدة، التي يعطلها الفيتو الروسي، تكون أقرب إلى جامعة الدول العربيّة التي انكشف عجزها منذ وقت طويل…
في المقابل، قرّرت الولايات المتحدة الانكفاء وإطلاق الكلام الكبير الذي لا ترجمة له على أرض الواقع في ظلّ رئيس مثل جو بايدن، يتبيّن كلّ يوم أكثر أنّه باراك أوباما آخر. لا أجوبة لدى بايدن عن التحديات التي تسبب بها فلاديمير بوتين، كما ليس لديه ما يواجه به الصين.
السؤال – اللغز يظلّ لماذا كلّ هذا الإصرار لدى الرئيس الروسي على تغيير النظام في أوكرانيا وإلحاقها بروسيا بالقوّة؟
كانت نقطة البداية للتراجع الأميركي في سوريا حيث ظهر أن باراك أوباما ليس سوى سياسي فاشل لا يهمّه سوى تفادي أيّ مواجهة من أيّ نوع. تراجع الرئيس الأميركي بعد استخدام بشّار الأسد السلاح الكيمياوي في حربه على شعبه صيف العام 2013. قبل ذلك هرب من العراق. استكمل في 2011 الانسحاب العسكري من معظم العراق بعدما عقد صفقة مع إيران تسمح لنوري المالكي بتشكيل حكومة.
لم يكن تراجع أوباما في سوريا حدثا عاديّا. لا يمكن تجاهل أنّه استمع، وقتذاك، إلى نصائح فلاديمير بوتين الذي أقنعه بأنّ من الأفضل إيجاد طريقة كي يتخلّص النظام السوري من مخزون الأسلحة الكيمياوية… بدل ضربه.
نجح فلاديمير بوتين في مناورته تلك. استعاض بشار الأسد في حربه على السوريين عن الأسلحة الكيمياوية بالبراميل المتفجرة. ارتاح باراك أوباما بعدما نجح في العام 2015 في التوصل إلى اتفاق مع إيران في شأن ملفّها النووي. أسوأ ما في الاتفاق أنّه سمح لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” بمتابعة مشروعها التوسّعي في المنطقة بواسطة ميليشياتها المذهبيّة. ولمّا فشلت هذه الميليشيات في حماية بشّار الأسد ونظامه، لجأت طهران إلى موسكو التي تدخلت مباشرة في سوريا ابتداء من أيلول – سبتمبر 2015… فيما أميركا في موقع المتفرّج.
في انتظار بلورة نظام دولي جديد، هناك عالم يعيش في حال من الفوضى. لا تعرف إدارة جو بايدن ماذا تريد في حين تبدو أوروبا مفكّكة وغير موجودة أكثر من أيّ وقت. أما فلاديمير بوتين، فلا شكّ أنّه يواجه مقاومة أوكرانيّة. ليس ما يشير إلى أن هذه المقاومة كافية كي يتراجع عسكريا. على العكس من ذلك، تبدو شهيّته مفتوحة أكثر من أيّ وقت. هل يتجرّأ في المستقبل على التدخل في دولة تنتمي إلى حلف شمال الأطلسي مثل بولندا؟
مع رجل مثل بوتين يمكن توقّع كل نوع من المفاجآت، خصوصا أن أميركا ضائعة وأوروبا غائبة… أما الصين فهي تعتبر نفسها المستفيد الأوّل من كلّ ما يدور في هذا العالم العجيب الغريب.