فرنسا: نحبك.. نكرهك؟
يتابع العالم كله حالياً ما يحدث في فرنسا منذ أيام من مظاهرات واحتجاجات حاشدة وما تخللها من أحداث عنف وشغب وتخريب ونهب هزت فرنسا كلها عقب مقتل شاب فرنسي من أصول جزائرية يدعى نائل على يد شرطي نتيجة مخالفة مرورية.
ربما لم تشهد فرنسا أسبوعاً دامياً منذ عقود طويلة مثل الذي عاشته خلال الأيام الـ7 الماضية، الأمر الذي استدعى في المقابل فرض إجراءات أمنية لم تقم بها باريس منذ أمد طويل وكادت تصل إلى حد إعلان حالة الطوارئ في عموم البلاد بعد أن بلغ عدد البلديات المتضررة من أعمال الشغب والتخريب إلى 222 بلدية.
الأخطر في حادث مقتل نائل وتداعياته لم يكن في عدد المباني التي تضررت، ولا عدد السيارات التي تم إحراقها، ولا عدد المحال التي تم نهبها، ولا عدد المكتبات التي تم إتلافها، ولا عدد الممتلكات الخاصة والعامة التي تم التعدي عليها، فرغم أن العدد الكلي لما تضرر يتجاوز الآلاف فإن الخسائر المادية يمكن تعويضها، بل ويمكن نسيانها أو تناسيها، لكن ما لا يمكن تعويضه أو رأبه هو الشرخ الذي قد يتسع في نسيج المجتمع الفرنسي والجرح الذي يتفاقم بين مختلف مكوناته العرقية.
بالطبع كان الغضب مبررا لكن طريقة التعبير عنه ربما جانبها الصواب، فما كان واضحا وبدا جليا أن هذا الغضب لم يكن مجرد رد على جريمة قتل بشعة وغير مبررة، وإنما هو رد على تراكمات تاريخية طويلة تتجاوز القرن الحالي.
لم يكن غضباً وليد اللحظة وإنما غضب ينتظر اللحظة المناسبة لكي ينفجر ولا يبقي ولا يذر.. غضب ينتقم من الماضي أكثر مما ينتصر للحاضر أو ينظر للمستقبل أو ينصر القتيل، غضب محمل بأحقاد تاريخية كثيرة ومعقدة وكراهية دفينة ومستترة تنتظر من يعطيها الفرصة لتخرج من عقالها وها قد وجدتها، كراهية تحمل فرنسا الحالية كل أخطاء وخطايا الجمهوريات الفرنسية السابقة، ليس في الجزائر وحدها بل في كل دولة احتلتها خلال تاريخها، كراهية تعاقب فرنسا على ما يسميه أصحاب هذا الاتجاه “جرائمها الاستعمارية الطويلة وماضيها الأسود الغارق في دماء الأبرياء”.
يخطئ من يعتقد أن اللجوء للعنف والشغب والتخريب قد يكون وسيلة ناجعة للانتقام للماضي أو لتعظيم مكاسب المستقبل أو حتى لنصرة المظلوم، فالعنف لا يولد إلا عنفاً ولا يمنح حقوقاً أو امتيازات ولا يعطي مكانة أو أفضلية، بل يولد كراهية مضادة وعنفاً مقابلاً، وهذا ما اتضح جليا في ظهور موجة جديدة من العداء للمهاجرين في فرنسا بدت ملامحها في المظاهرات المضادة التي جابت شوارع بعض المدن الكبرى مثل ليون ومارسيليا مرددة الشعار الشهير: أزرق أبيض أحمر.. فرنسا للفرنسيين، كما تجلت في العالم حملة التبرعات لأسرة الشرطي القاتل التي تفوقت في حصيلة ما جمعته من أموال على الحملة التي انطلقت لجمع تبرعات لأسرة القتيل.
إذن قد نشهد نتيجة عكسية لكل ما يحدث قد تتبلور في مواجهات هجرة عكسية ليس من فرنسا وحدها، وإنما من أكثر من دولة أوروبية مع تنامي أصوات المطالبين ومع ما تجده هذه الدعوات من صدى واستجابة من قطاعات كبيرة ترى أن هناك من ينافسها في فرصها القليلة أصلاً في بلدانها وتلقي عليه مسؤولية معاناته في البحث عن فرصة عمل مناسبة.
المفارقة هنا أن عائلة القتيل كانت أكثر إدراكاً لهذه الحقيقة وأكثر عقلانية من معظم المحتجين عندما دعت المحتجين دون استجابة إلى وقف العنف والتزام الهدوء. وقالت إنها لم ترغب في أن يؤدي مقتله إلى أي أعمال الشغب.
كما اتهمت جدة نائل مثيري الشغب باستخدام موت حفيدها ذريعة لأعمال العنف، وحثتهم على وقف الإضرار بالممتلكات العامة.
في المقابل على الدولة الفرنسية بكل مؤسساتها أن تسعى جاهدة للإجابة عن السؤال الذي عجزت عن الإجابة عنه طول العقود الستة الماضية: لماذا يسيطر على كثير من المواطنين الفرنسيين من ذوي الأصول العربية ولا سيما الجزائرية الإحساس باللامساواة والتهميش؟ وهو ما يدفع إلى ردود فعل مبالغ فيها قد لا تتناسب مع قوة الفعل وتصل في أحيان كثيرة إلى حد العنف؟ هل كانت هناك ولا تزال سياسات يمكن مراجعتها دفعتهم لتبني هذا الإحساس الذي يتم توريثه من جيل لجيل ولا يبدو أن هناك نهاية قريبة له؟
أعتقد أن هذا السؤال يجب أن يشارك في الإجابة عنه لفيف من علماء النفس والاجتماع وليس فقط رجال القانون وصناع السياسة وخبراء الاقتصاد، وفي النهاية أعتقد أن فرنسا بحاجة لصياغة عقد اجتماعي جديد بين كل مكوناتها العرقية وبين الدولة والمجتمع، هذا وحده الكفيل بتفادي تكرار الأزمة الحالية التي كادت أن تخرج عن السيطرة، وهو الكفيل بإنهاء علاقة الحب/ الكراهية (love /hat relationship) التي تحكم مشاعر كثير من المواطنين الفرنسيين المنحدرين من أصول غير فرنسية تجاه الدولة التي يعيشون على أراضيها ويتمتعون فيها بامتيازات وحقوق المواطنة ويمارسون فيها ما لا يستطيعون ممارسته في بلدانهم الأصلية لكن يبدو أنهم لا يزالون يفتقدون شيئًا ما يدفعهم للنقمة عليها.