في العراق دولة فاشلة
د. ماجد السامرائي
مجلة فورين بوليسي صنفت العراق في المرتبة الثانية عشرة بقائمة الدول الفاشلة وفق تصنيف عالمي نشر عام 2005 ليصعد إلى المرتبة الخامسة عربيا والثالثة عشرة عالميا عام 2019.
لم يكن هذا الترتيب عاطفيا أو ظالما أو مدفوعا بأغراض سياسية، بل جاء وفق معايير سياسية دولية صّنفت الدول على أساس قدرتها على إدارة حكم شعوبها وتوفير متطلبات الأمن والتعليم والصحة والعيش الكريم وحقوق الإنسان والعدالة لجميع مواطنيها.
في كتابه “الدول الفاشلة” الصادر عام 2006 عرّف المفكر الأميركي نعوم تشومسكي الدولة الفاشلة بأنها الدولة التي تعجز عن حماية مواطنيها من العنف. لعل هذا التوصيف وحده كافيا لتسمية النظام السياسي القائم في العراق منذ عام 2003 وإلى حد الآن بالدولة الفاشلة.
ومؤخرا صدر تهديد من الاتحاد الأوروبي يشير إلى احتمال وضع العراق تحت بند الدولة الفاشلة.
فريقان من السياسيين أو المعنيين بالحالة العراقية لا يعجبهم هذا التوصيف. الأول، يضم النظام السياسي القائم ودعاته وحماته ورعيل الأحزاب المنتفعة من اسم العراق ومن رصيده وموقعه التاريخي والجيوسياسي والحريصة على الاستمرار بتمرير وصف “الدولة العراقية الديمقراطية” كغطاء لمواصلة النهب واختطاف البلد من الخارج.
الفريق الثاني، هم ملايين العراقيين المتضررين من مساوئ هذا النظام الذي أقامه الاحتلال الأميركي على أنقاض دولة عراقية عريقة. ويلوم هذا الفريق الإدارات الأميركية المتعاقبة التي تخلّت عن التزاماتها بعد إسقاط النظام السابق، فهي دولة محتلة فعلت بالعراق ما فعلته مع اليابان وألمانيا، واستجلبت شتات الجهلاء والمتطرفين من دعاة الإسلام السياسي الشيعي وسلمتهم حكم العراق، الذي لا يستحق في وضعه الحالي أن يسمّى دولة، بل مؤسسة تقدم خدماتها للميليشيات.
الطبقة الحاكمة من رؤساء ووزراء ونواب وأحزاب لا تبدي أي اكتراث بالأوصاف السيئة عالميا أو محليا ومنها تصنيف العراق كدولة فاشلة، أو بوصف بغداد من قبل مؤسسة ميرسير النمساوية من حيث جودة مستوى المعيشة للعام العاشر بأنها أسوأ مدينة للعيش، لتحل في المركز الأخير بعد بانغي في جمهورية الكونغو الشعبية بأفريقيا.
ما يهمّ هؤلاء هو الاستمرار بالحكم، ولديهم الآن ميليشيات تحميهم وتتقاسم معهم المنافع والسرقات، هي الأعنف في المنطقة، وتضاهي في ممارساتها الوحشية التي تمثلت بقتل واختطاف العراقيين ما يمارسه الحرس الثوري في إيران من فظائع ضد الإيرانيين.
كيف يمكن لهؤلاء المتسلطين على الحكم استيعاب ما يطلق على نظامهم من نعوت وأوصاف بأنه دولة فاشلة وهم يعيشون في عالم المنطقة الخضراء بالقصر الجمهوري والقصور الفارهة التي بناها وتركها لهم صدام حسين وتتوفر فيها كل متطلبات البذخ وترصد لخدماتها يوميا ملايين الدولارات، يتقاضون الرواتب والمخصصات العالية لهم ولأسرهم داخل وخارج العراق، في حين يتم اقتطاع رواتب الموظفين البسطاء، وتنقل مواقع التواصل الاجتماعي صورا وأفلاما مرعبة عن تفتيش أعداد كبيرة من الفقراء العراقيين على قوت أطفالهم في مكبّات النفايات.
لا شك أن هؤلاء المتحكمين بالبلاد يستهزئون بتلك الأوصاف متمسكين “بالراشيتة” التي وضعها لحكمهم الاحتلال الأميركي ووصفه بالدولة الديمقراطية، معتقدين أن ليس باستطاعة أحد إزاحتهم. بل هم ابتزوا ولا يزالون منظمات عالمية لتلميع صورتهم وتلميع حملة الانتخابات المقبلة التي تتقدم فيها منظمات الميليشيات المسلحة.
مثال على ذلك، رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي يعيشان واقعا لم يقترب من أحلامهما خلال شبابهما، ليصبحا رئيسي أعلى سلطة في عراق “الدولة الفاشلة”. ويبدو من تصرفاتهما أنهما ابتعدا عن ملامسة آلام الشعب العراقي وخاصة شبابه، في حين يطبقان جميع الطقوس والمكاسب التي يتيحها لهما عنوان الوظيفة الأولى في بلد “الدولة الفاشلة”.
الأول، الرئيس برهم صالح الذي أنهى مشروعه السياسي داخل الحركة الكردية بعد أن أصبح يتعامل باندماج عال مع تفاصيل مظهرية لمنصب رئيس الجمهورية، وهي تفاصيل لم يكن يتعامل بها الراحل جلال الطالباني لمعرفته الدقيقة أن هذا النظام هو صناعة أميركية.
ويحاول صالح في الأيام الأخيرة التعبير عن بعض الجوانب الظلامية للوضع الحالي كنوع من “التقيّة” التي اكتسبها من رفاقه السياسيين الشيعة، متمنيا للعراق الاستمرار في الفشل متماشيا مع رغبات الميليشيات خلال الأشهر القليلة التي بقيت له في وظيفته بعد أن هدد بالقتل عدة مرات. لهذا بدت مقابلته لرئيس هيئة الحشد فالح الفياض، المعاقب بتهمة الإرهاب من قبل واشنطن، استعراضية مفتعلة لم تقنع حتى أوساط الميليشيات، منتظرا السفر إلى واشنطن لتقديم التهاني بنفسه للرئيس الأميركي الجديد جو بايدن وفاء لصداقتهما.
المسؤول الثاني في النظام، وهو الحاكم التنفيذي الأول مصطفى الكاظمي، لم يقترب إلى حدّ اللحظة من متطلبات شروط خدمة الشعب الذي يمرّ بأقسى الظروف التي تتطلب الجرأة والقرار السياسي الحاسم. وهو ضائع ما بين شعار “الشهيد الحي” والتسليم الكامل للميليشيات المسلحة.
ماذا ينتظر الكاظمي وهو يستمع أو يقرأ بنفسه الكم الهائل من تقارير حقوق الإنسان العالمية ليصدّق أنه يقود دولة فاشلة وعليه أن ينتفض على واقعها. ومن بينها تقارير مركز جنيف للعدالة الذي كشف بالأرقام والوقائع منذ عام 2017 وجود مراكز احتجاز سرية ترتكب فيها الانتهاكات والتعذيب والإعدامات الجماعية، وآخرها اكتشاف جريمة المقبرة الجماعية في منطقة الإسحاقي بسامراء، التي ارتكبتها الميليشيات ومنعت الأهالي من الوصول إليها، إضافة إلى تقارير هيومن رايتس ووتش المتواصلة.
لو جمعت تقارير وبيانات هيومن رايتس ووتش مع تقارير مركز جنيف للعدالة والمنظمات المحلية بالعراق في ملف وثائقي، تتبناه وتكشفه للرأي العام العالمي بنزاهة وصدق الأمم المتحدة، لتمت محاسبة الحكام في العراق تحت عنوان مجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان، وليس فقط لأنهم يقودون دولة فاشلة. لكن نفاق المنظمة الدولية ومراعاة مصالح الكبار في العراق والمنطقة يجعلانها تمنح مرونة لبعض الهيئات الحقوقية الدولية للتحرك في المجال الإعلامي فقط وليس الإجرائي.
تدريب متواصل تعلم خلاله قادة الأحزاب ومسؤولو الحكم التنفيذي عدم الاستماع إلى ما يحصل خارج بيوت العنكبوت التي يعيشون داخلها، لأن الاستماع يقود إلى القلق والخوف من المصير وهما حالتان تقودان إلى الاستسلام للهزيمة، وهم ممنوعون منها بتعليمات مشددة من الحاكم بأمر الله في الأرض والولي الفقيه خامنئي، وعليهم الصمت وعدم المواجهة حتى النهاية.
من صفات الصناع وخدم الكبار والعملاء أنهم يصلون إلى لحظة يفكرون خلالها في لملمة ما كسبوه من غنائم والرحيل عن المشهد حين يقترب من لحظاته الأخيرة، لكن هؤلاء الحكام وتوابعهم في بغداد مُحاصرون خائفون من الغد، فالذهاب إلى طهران يضيّع أموالهم المنهوبة، وحتى الذين هرّبوا أموالهم إلى بلدان أخرى يبقى مصيرها غير آمن إذا ما انقلبت عليهم الطاولة، وهو أمر متوقع. وتجارب الطغاة ما زالت أخبارها ماثلة. لا بدّ من يوم آتٍ تنتصب فيه رايات الضحايا في شوارع بغداد وجميع مدن العراق معلنة ساعة حساب الظالمين.
العيش داخل طقوس الدولة الفاشلة يبدو مبهرا وسعيدا لكن نهايته صادمة، والعميل إذا ما تمرّد على أسياده جزاؤه الموت لكي لا يكشف أسرارهم.
أليست في العراق الآن دولة فاشلة حتى وإن سخر أصحابها من الجميع؟ الجواب عند العراقيين.