في شأن الذي جرى في “أنكوراج”!
د. عبد المنعم سعيد
لا يوجد سبب واحد معقول لاستضافة “أنكوراج” لأول اجتماع رسمي صيني أمريكي في ٢٠ مارس الماضي.
المدينة التي كثيرا ما وصفت بأنها صندوق كبير من الثلج في جنوب وسط ألاسكا الولاية التي تقع في شمال غرب الولايات المتحدة ومنفصلة عن أراضيها بالدولة الكندية واسعة الأطراف، بات عليها أن تكون الساحة التي قرر فيها الأمريكيون والصينيون أن يعقدا جولتهما الأولى.
ألاسكا جديدة نسبيا على الاتحاد الأمريكي فلم تصبح ولاية إلا في عام ١٩٥٩، ولكنها قديمة من أراضي الولايات المتحدة بعد أن سعي وزير الخارجية “ويليام سيوارد” في١٨٦٧ – لاحظ هنا أن ذلك كان بعد عامين من انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، وبعدها باتت الدولة تستعد لعمليات التوسع الخارجي – إلى شراء الولاية التي كانت تحت السيادة الروسية بمبلغ ظنه الأمريكيون كبيرا في ذلك الوقت: ٧.٢ مليون دولار فقط ولا غير.
لم يمض وقت طويل حتى عرف الأمريكيون أن الصفقة التي حصلوا عليها ربما كانت أغلى الصفقات بعد أن جرى اكتشاف الذهب في ١٩١٢، ومن بعدها النفط في ١٩٧٥، وبكميات هائلة. المؤكد أن وقت الشتاء كان آخر الأوقات التي يمكن اختيارها لعقد لقاء هام أتى بعد أربعة سنوات من علاقات أمريكية صينية متوترة قيل عنها أنها “الحرب الباردة” الجديدة التي سوف تستأنف ما كان من حرب باردة سابقة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
حلت الصين الآن محل الدولة السوفيتية في مكانة الدولة العظمى التي تليق بالمنافسة مع الدولة التي ظلت تقريبا لعقدين، قيل ثلاثة عقود، الدولة العظمى الوحيدة على كوكب الأرض. كان في أمريكا دونالد ترامب رئيسا وكانت له فلسفته في أن الصين استفادت من “العولمة” أكثر من الولايات المتحدة، وأنها كانت في “الحقيقة تغش” باعتبارها واحدة من الدول النامية، وأكثر من ذلك أنها كانت الدولة التي تسببت في خلق ونشر وباء كورونا على سكان الكوكب.
الآن جاء بايدن، وهو من ناحية يريد أن يطوي إلى الخلف كل ما فعله ترامب، ولكنه أيضا يعلم أن العلاقات مع الصين، وبقية الكوكب ربما لن تعود أبدا لما كانت عليه، وأن جوهر العلاقة لا يمكن أن يكون صراعا، ولا نزاعا، وإنما “منافسة”.
أيا كانت الأسباب فقد انعقد الجمع في “أنكوراج” ممثلا في وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بيلكين ومعه صحبه من وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي، وربما أجهزة أمريكية أخرى مساعدة؛ وفي المقابل جاء “مدير مكتب الشؤون الخارجية في اللجنة المركزية “للحزب الشيوعي الصيني” أو وزير الخارجية باختصار “يانج جييشى”.
من كتبوا عن الاجتماع وصفوه بأنه ممثلا لحالة خلعت فيها كل القفازات، حيث كان فيها كثيرا من العبور لخطوط حمراء، ولحظات كثيرة من “التنمر” من كل طرف على الطرف الآخر. مفتاح هذه الحالة كان بالتأكيد الجانب الأمريكي، الذي تخيل أنه يستطيع في هذا الاجتماع أن يضع القواعد التي تعيد للولايات المتحدة قيادتها للعالم مرة أخرى سواء كان ذلك من خلال عناصر القوة الأمريكية الصافية، أو تلك التي تنجم عن قوة التحالف الغربي وحلف الأطلنطي معا حيث يمكن ساعتها إدارة العالم كله.
لم تكن هناك صدفة أن الاجتماع مع الصين جاء بعد سلاسل من الاجتماعات التي جرت في أوروبا، ومع حلفاء أمريكا الآخرين في اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية. ولم تكن هناك صدفة من الناحية الأمريكية عندما طرح “بلينكين” ضرورة أن يقوم النظام الدولي على قواعد متعارف عليها في أن تكون “تنافسية” حيثما يكون ذلك ممكنا، وتعاونية عندما يكون ذلك مستطاعا، ومتصادمة عندما يكون ذلك لا يمكن الفكاك منه. بدون ذلك فإن النظام الدولي سوف يكون قائما على أساس “القوة” وليس “الحق”؛ ويحصل الفائز فيه على كل الغنائم، فمثل ذلك سوف يجعل العالم غير مستقر، وقائما على النزاع والعنف.
هذه المرة لم تكن المحاضرة الأمريكية حول القواعد والأصول مستساغة، خاصة أنها سرعان ما صارت المصدر لكثير من اللوم فيما يخص بعض القضايا أو الملفات ذات الحساسية للجانب الصيني. رد “يانج جييشي” بأن الصين لا تؤمن بالغزو أو استخدام القوة أو الإطاحة بالنظم في دول أخرى بوسائل متنوعة، أو بذبح شعوب دول أخرى “الإشارة هنا إلى الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق ودول أخرى، وإلى مذابح قامت بها الولايات المتحدة تجاه السكان الأصليين في أمريكا، وباستخدام القنابل الذرية في هيروشيما وناجازاكى”.
الصين لن تفعل ذلك لأن ذلك سوف يسبب عدم الاستقرار والفوضى في العالم، وهو لا يتماشى مع ما “يسمى” نظاما عالميا قائما على القواعد والقوانين. كان “يانج” مستعدا بقوة لاتهامات بلينكين في مجال حقوق الإنسان، وطالب الولايات المتحدة أن تفعل ما هو أفضل في هذا المجال في ضوء ما هو معروف من تمييز عنصري في الولايات المتحدة.
باختصار كان للطرفين سردية تقابل ما لدى الطرف الآخر من رواية تخص الأوضاع والعلاقات الداخلية؛ وكان لدى يانج ملخص للمسألة كلها عندما قال أنه على المحك توجد موضوعات السلام والتنمية والعدل والحرية والديمقراطية، وفي كل ذلك يوجد نمط ديمقراطي أمريكي، ونمط ديمقراطي صيني لا يقل أصالة.
ما جرى في “أنكوراج” لم يكن مستغربا حيث أصبحت الصين أكثر جرأة واستعدادا للمواجهة في موضوعات كانت تحاول دائما تجنبها. كانت آثار السنوات الأربع الماضية من تراجع في القوة العالمية الأمريكية، والصعود في القوة الصينية، ومعاناة الطرفين من كارثة كورونا؛ كلها وضعت بصماتها على كل منهما وعلى العلاقات القائمة بينهما. كلاهما كان يعلم أن هناك حاجة ماسة إلى التعاون في مواجهة الكارثة الآنية للفيروس التاجي وتحولاته؛ وباعتبار مكانتهما الصناعية فإنه لا يوجد حل للتعامل مع “الاحتباس الحراري” للكوكب ما لم يقم كل منهما بما وافق عليه في اتفاقية باريس التي خرجت منها أمريكا وعادت.
واشنطن وبكين يعلمان جيدا أن معالجة مشكلات أمنية عالمية بحجم وقدر كوريا الشمالية وإيران تحتاج إراداتهما المجتمعة. ووراء ذلك كله مساحة كبيرة من الاعتماد المتبادل الذي لا يجعل الحرب بينهما ليست فقط مستحيلة لأسباب نووية، وإنما أيضا الصراع والنزاع الشديد.
فربما لم يحدث في التاريخ أن كان الاعتماد المتبادل بين دولتين عظميتين متنافستين بهذا القدر من الكثافة في مجالات التجارة والابتكار والسياسات النقدية وسلاسل التوريد الصناعية. فالصين لديها في احتياطها النقدي ما يقرب من ٢ تريليون دولار، والولايات المتحدة تستورد من الصين ٤١٪ من احتياجاتها العالمية؛ والثابت هو أنه بالنسبة للصين فإن الولايات المتحدة تمثل أكثر أسواقها امتدادا واتساعا والتي لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بأسواق أخرى مماثلة في الغنى والثروة.
ما حدث في ألاسكا كان ضروريا كي تقوم الولايات المتحدة والصين بتفريغ شحنات أيديولوجية على الأرجح أنها ضرورية القول بالنسبة لجبهاتهما الداخلية، ولعلها عاكسة بدرجة أو بأخرى لتوازنات القوى الجديدة في العلاقات الدولية، ولكنها في الأول والآخر لا تغض الطرف عن أن مساحة التعاون بينهما لا تقل اتساعا أو أهمية عن مساحة التنافس.