قيس سعيد والغنوشي.. صراع الداخل والخارج
مختار الدبابي
قادت زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد إلى مصر إلى توتر جديد بينه وبين الغنوشي قد ينتهي هذه المرة إلى قطيعة نهائية بين رأسيْ السلطة: رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان.
لم تكن علاقة قيس سعيد بالإسلاميين جيدة، وكانت هناك خلافات واضحة، لكن كان ثمة شعرة معاوية التي يرفض الطرفان قطعها إلى أن جاءت زيارة مصر المثيرة للجدل والتأويلات لتقطعها.
لم يكن أمر القطيعة مرتبطا بالإسلاميين لوحدهم بعد أن شنوا حملة كبيرة على الزيارة وربطوها بأجندة إقليمية معارضة لهم، ولكن قيس سعيد نفسه أظهر أنه على طريق التصعيد مباشرة منذ عودته من القاهرة.
كانت كلمة الرئيس سعيد في جامع الزيتونة إعلانا للمواجهة أكثر من كونها مقاطعة بما قد تعنيه من إهمال وتجاف. لقد عكست هذه الكلمة مخاوف الإسلاميين من الزيارة التي امتدت لثلاثة أيام دون أن تصدر عنها أيّ اتفاقيات على عادة الزيارات المطوّلة، فضلا عن أن قيس سعيد لم يحمل معه وزراء يمكن أن يتولوا على هامش الزيارة توقيع اتفاقيات أو تفاهمات.
يقول الإسلاميون إنها زيارة مبهمة وغامضة، وإن الرئيس قد يكون التحق بالحلف الإقليمي المعارض لهم، والذي تمثل مصر واجهته، والدولة الأكثر قطيعة ضدهم.
وجاءت كلمة رئيس الجمهورية المخصصة لتهنئة التونسيين بمناسبة بداية شهر رمضان مليئة بالإشارات إلى أن الرئيس يسير نحو صدام مع الإسلاميين من خلال حث الناس على التفريق بين المسلمين والمؤمنين الذين يتوجه لهم النص القرآني بالحديث وبين “الإسلاميين وجمعية (اتحاد) علماء المسلمين”.
ووضع الرئيس، هنا، نفسه بشكل واضح ضمن الحلف المقابل الذي يقف ضد اتحاد العلماء المسلمين، وهو الواجهة السياسية للإسلاميين من خط جماعة الإخوان المسلمين، والمقصود هنا ليس فقط الحلف الإقليمي الذي تمثله مصر ودول عربية وخليجية أخرى، وإنما أيضا حلف داخلي تتزعّمه عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر التي أقامت اعتصاما لأسابيع أمام مقر الاتحاد في تونس وطالبت بحله واتّهمته بترويج خطاب داعم للإرهاب.
ومن الواضح هنا أن الرئيس قطع مع التردّد والحسابات السياسية التي ميزت عامه الأول في الحكم من خلال الرهان على تطويع الإسلاميين من بوابة “حكومة الثورة” في مرحلة أولى، وفي مرحلة ثانية محاصرتهم في البرلمان وبناء تحالف أوسع يفضي إلى سحب الثقة من الغنوشي في رئاسة البرلمان.
وإن لم يقل الرئيس ذلك علنا، فإن الزيارات المستمرة لنواب “الكتلة الديمقراطية” إلى قصر قرطاج والتصريحات التي تلي ذلك تظهر أن الرئيس مهتم بخطة ناعمة لإضعاف الغنوشي ودفعه إلى الظل بعد أن سعى خلال السنوات الأخيرة إلى لعب دور محوري داخلي وخارجي وكأنه الشخصية السياسية الأولى في البلاد.
وبعد فشل “الكتلة الديمقراطية” في لعب دور تهميش الغنوشي هناك مؤشّرات على أنّ الرئيس بدأ يفكّر في خطّ مغاير هو الرهان على خط عبير موسي الأكثر راديكالية ووضوحا في مواجهة الإسلاميين والأكثر وزنا شعبيا والأكثر مقبولية إقليميا. وكانت زيارة ضريح بورقيبة في ذكرى وفاته إشارة واضحة من الرئيس سعيد على رغبته في تنويع رهاناته والاقتراب من جمهور الدساترة والتجمعيين، وهو جمهور يضم كفاءات وكوادر عملت في الدولة الوطنية، وعداؤها للنهضة عداء عملي بسبب خسارة نفوذها من خصم بينها وبينه تاريخ من الصراع الأمني والشعبي والديني، ولديها خبرات في إدارة هذا الصراع.
والتقطت عبير موسي الإشارة الجديدة وقالت في حوار مع فضائية مصرية إن اختبار الرئيس سعيد سيكون مدى قدرته على تنفيذ تعهداته بمواجهة الإسلاميين.
وحملت كلمة الرئيس سعيد بمناسبة رمضان، كذلك، اتهامات بالنفاق والكذب والقذف في حق هؤلاء “الأبالسة” كما وصفهم، وهو ما يعني أن الرئيس دخل ملعب الإسلاميين والأرضية التي يتحركون فيها طيلة عقود.. يهاجمهم بتوظيف القرآن والأحاديث النبوية، كما يهاجمهم من داخل المساجد.
وفهمت هذه الإشارات على أنّ سعيد بات ينوع في أدوات المواجهة، كما ينوّع في الحلفاء، وأنه لم يعد يخاف الهجمات التي ينفذها الإسلاميون عليه، خاصة على مواقع التواصل، والتي تتّهمه بخرق مبدأ حياد المساجد وتوظيف دور العبادة للاستقطاب السياسي وهي الورقة التي سحبت منهم بالقانون ودفعتهم إلى التخلص من قيادات راديكالية كانت توظف المنابر الدينية لجذب الجمهور.
وتقول أوساط متابعة لهذا الجدل إن الرئيس عاد من مصر بآليات مواجهة جديدة، وإنه يريد أن يظهر كممثل للدين بواجهته الرسمية (حضور المفتي، وفي محراب جامع الزيتونة)، الدين الذي يختص بعبادة الله ويقوم على الصدق وطهارة النفس في مقابل الدين/الإسلام السياسي.
وتعتقد هذه الأوساط أن الإسلاميين كانوا يتوقعون هذه المرحلة من المواجهة مع قيس سعيد، مواجهة مكشوفة بلا حذر ولا حسابات، لكنهم ليسوا على استعداد لها حاليا، وهو ما عكسته كلمة الغنوشي لتهنئة التونسيين برمضان.
تركزت هذه الكلمة على “التصالح” و”المصالحة” بين “الأحزاب وكل السلطات”، والمقصود بها خصوم النهضة، أي الرئيس وحزامه الثوري الذي يضم حركة الشعب القومية، والتيار الديمقراطي (وسط اجتماعي).
ولا شك أن الغنوشي لا يريد المواجهة بأيّ شكل مع قيس سعيد، ليس فقط لتكاليفها السياسية والأمنية وما قد تحمله من مفاجآت، ولكن بالأساس لأنها قد تفسد استراتيجيته الناعمة في التمكين الذي أخذ بعدا أكثر وضوحا وبات يعني تحويل حركة النهضة كحزب محوري في المشهد السياسي، والغنوشي كشخصية ضامنة للاستقرار والانتقال الديمقراطي في البلاد، إلى أمر واقع والحصول على اعتراف الداخل والخارج بهذا الأمر.
تعرف النهضة أن وضعها الحالي مريح بالرغم من أن تكاليفه على البلاد كبيرة، وهي تنظر إلى المستقبل الذي ينتهي فيه التجاذب السياسي والصراع على الصلاحيات لتجد نفسها في وضع ملائم لاستمرار مسار التمكين وتأكيد نجاح رهانها على الديمقراطية كطريق أقصر إلى ذلك.
ومن المنتظر أن تستمر النهضة في ملاعبة سعيد من داخل اللعبة السياسية بتحريك ورقة المحكمة الدستورية باستمرار، وإظهاره في صورة رجل القانون الذي يخرق القانون أو الذي يسعى للانقلاب على الديمقراطية.
كما ستستمر في حشد التحالفات لتغيير القانون الانتخابي وإظهار أن المشكلة في النظام السياسي الحالي إجرائية وليست هيكلية، أي يمكن إصلاحه مع استمرار نظام يكون البرلمان محوره في مواجهة النظام الرئاسي الذي يهدد بـ”عودة الدكتاتورية”، وتتركز حملاتها على قيس سعيد على هذا المستوى وتحرص على كسب حلفاء جدد، من ذلك بيان حزب أمل الذي يسيّره عمليا أحمد نجيب الشابي، حليفها التاريخي في فترة بن علي.
وأيا كانت الحسابات الإقليمية لمواجهة سعيد والغنوشي، وحظوظ أحدهما في الاستفادة من المتغيرات، وخاصة تقارب تركيا مع خصوم الأمس، فإن هذه المعركة ستكون مكلفة على تونس سياسيا واقتصاديا وربما أمنيا، في وقت تتركز فيه أنظار الدول المؤثرة إقليميا على الاستفادة من فرص الاستقرار في ليبيا وتتشكل تحالفات على قاعدة المصالح والمنافع، في الوقت الذي يفتقد فيه صراع الأحلاف القديم معالمه، وهو يستمر فقط، وربما لبعض الوقت، في الملعب التونسي.