قيس سعيد والقضاء ومذكرة اعتقال المرزوقي
الحبيب الأسود
جاء الإعلان عن إصدار القضاء التونسي مذكرة اعتقال دولية في حق الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي ليزيد من حدة اتهامات المعارضة للرئيس قيس سعيّد بمحاولة السيطرة على السلطة القضائية، ولاسيما خلال الأشهر الماضية التي تلت التدابير الاستثنائية المتخذة في الخامس والعشرين من يوليو الماضي، والتي انقسمت الآراء على توصيفها بين حركة تصحيحية وانقلاب على الشرعية والدستور.
الثابت والمؤكد، أن المرزوقي لن يُعتقل، وأن المذكرة الصادرة في حقه لن تجد أي صدى، وخاصة في الدول الغربية حيث هناك تشكيك منذ أمد طويل في استقلالية القضاء التونسي وحياديته.
وحتى بعد الإطاحة بالنظام السابق في يناير 2011، لم تقم السلطات بأي خطوة في اتجاه تطهير المؤسسة القضائية من الفساد، وإنما ما حدث هو العكس تماما، حيث قامت الحركات السياسية النافذة والحاكمة باختراق القطاع، وسيطرت على جانب كبير منه سواء باعتماد الترغيب أو الترهيب، واستعملته في العبث بمصير الآلاف من الملفات المتعلقة بالاغتيالات السياسية والجهاز الأمني والإرهاب وتسفير الشباب إلى بؤر الصراع في خارج البلاد، وكذلك بالفساد والتهريب ونهب المال العام والحصول على تمويلات أجنبية لا يقرّها القانون وما إلى ذلك من القضايا الساخنة. بل إن حركة النهضة التي اخترقت المؤسسة القضائية بشكل غير مسبوق في تاريخ دولة الاستقلال، حاولت أن تبسط نفوذها على المحكمة الدستورية العليا التي تم إقرارها والتنصيص عليها في دستور 2014، وذلك بتحويلها إلى ساحة للمحاصصة الحزبية والتجاذبات العقائدية. وكان هدف الحركة الإخوانية انتظار اللحظة التي تسيطر فيها بالكامل على الأغلبية البرلمانية لتدفع بمرشحيها إلى عضوية المحكمة الدستورية، وهم ليسوا من القضاة، ولكنهم من رجال الدين المتشدّدين والمعروفين بالنزعة القطبية السرورية. وقد تفطن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي لذلك، وتم تجميد الأمر، وعندما جاء الرئيس قيس سعيد، حاولت النهضة العودة إلى الموضوع، ولكنها فوجئت به يقطع أمامها الطريق بالاعتماد على النص الدستوري الذي كان حدد آجالا لتركيز المحكمة الدستورية، تم تجاوزها منذ العام 2015.
لن يتم اعتقال المرزوقي في الخارج ولا تسليمه إلى تونس، ولكن صدور القرار القضائي بحقه، يمنعه من التمتع بامتيازات رئيس سابق، كما تم حرمانه قبل أسبوعين من جواز السفر الدبلوماسي، ولن يكون بوسعه العودة إلى تونس قريبا، كما لا أعتقد أن دولة قطر ستستقبله على أراضيها خلال الفترة القادمة، وإنما ستكتفي بدعمه إعلاميا، وقد ترسل إليه مكرمة مجزية لمساعدته على تكاليف الحياة، رغم أن كل المؤشرات تؤكد أنه في غنى عن أي مساعدات، وأن لديه من المدخرات ما يكفيه طوال حياته.
إن القرار الصادر في حق المرزوقي، وإن كان مستحقّا وله مؤيداته وفق النصوص الجزائية، إلا أن القوى الخارجية والداخلية التي تحاول التشكيك في خطط وتوجهات وقرارات الرئيس سعيد، وتتهمه بالانقلاب، ستستعمله في دعم مواقفها، وفي الترويج لمقولات بدأت من مدة تتهم الرئيس بالدكتاتورية، وبالعمل على وضع يده على المؤسسة القضائية وتجييرها لفائدة مشروعه للانفراد بجميع السلطات، ولملاحقة خصومه السياسيين. فالرئيس سعيد هو الذي قال خلال مجلس وزاري في 14 أكتوبر الماضي مخاطبا وزيرة العدل “إن من يتآمر على تونس في الخارج يجب أن توجه له تهمة التآمر على أمن الدولة في الداخل والخارج” في إشارة إلى المرزوقي الذي قاد حملة واسعة ضد التدابير الاستثنائية، ووجه رسائل إلى عدد من الدول داعيا إياها لمقاطعة القمة الفرنكوفونية التي كان من المنتظر أن تنعقد خلال نوفمبر الجاري بجزيرة جربة. وبعد أن تم تأجيلها لمدة عام، ادعى المرزوقي أن له دورا في قرار التأجيل، وهو ما أثار ضده موجة من الغضب العارم في الأوساط الشعبية، وذكّرت الكثير من التونسيين بتلك المؤامرات التي تستهدف بلادهم قبل العام 2011، والتي كان بعض المعارضين ومنهم المرزوقي يخطط لها علنا مع الأطراف الأجنبية في استقواء واضح بالخارج، ولكن الشعب لم يكتشف حقيقة هؤلاء إلا بعد الإطاحة بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ووصولهم إلى الحكم، حيث مارسوا نهبهم للثروة وتفريطهم في السيادة الوطنية وتبعيتهم المفضوحة لبعض القوى الإقليمية والدولية.
لم يكن الرئيس سعيد فاعلا سياسيا قبل 2011، لا في المعارضة ولا في الموالاة، ولكن ما إن وصل إلى كرسي الحكم، حتى أدرك أن الحكم ليس لعبة للمتنطعين، ولا هواية للفضوليين. وأن السلطات التي حكمت دولة الاستقلال، لم تخطئ في تقييمها للإخوان وللمعارضات الراديكالية يسارا ويمينا، ولخونة الأوطان، ومحبّري التقرير للسفارات في الداخل، وللحكومات في الخارج، بل وأدرك أن أخطر ما عرفته البلاد خلال السنوات العشر الماضي، هو العمل على تفكيك مؤسسات الدولة بما فيها القضاء، لتكون عرضة للاختراق من قبل دعاة التمكين. فالإخوان مثلا كان أول أهدافهم تدنيس ثوب العدالة، وبسط نفوذهم عليها، وقد نجحوا في ذلك نسبيا، وهو ما لمّح له الرئيس، عندما تحدث عن عدم الحسم في قضايا مرت عليها سنوات عدة، وعن تعطيل مفضوح لعدد من الملفات المهمّة، وهو أمر يقتنع به أغلب التونسيين، حيث لا تزال قضايا الاغتيالات السياسية تراوح مكانها منذ العام 2013، وعجزت محكمة المحاسبات عن تفعيل قراراتها بشأن التمويلات الأجنبية والمخالفات المسجلة في انتخابات 2014 و2019، وهناك العشرات من القضايا التي لا تزال تثير جدلا واسعا حولها.
يبدو أن الرئيس سعيد أدرك ورطة الديمقراطية المزيفة في جانب كبير منها في بلاده، فبعد أن تم فتح أبواب تونس للتدخلات الخارجية بشكل سافر خلال السنوات العشر الماضية، وبعد أن ترهلت قبضة الدولة وتراجع أداؤها، يمكن ملاحظة مستوى الخطر الذي تعاني منه البلاد. فمجرد السماح منذ 2011 لمنظمات المجتمع الأهلي بتلقي التمويلات من الخارج، وتلميع صورة المتهمين بالإرهاب وخونة الأوطان وتصديرهم على أنهم أبطال وزعماء، والسماح للأطراف الدولية بالتدخل المباشر في الشأن الداخلي، وتحول الاستقواء بالأجنبي إلى مهنة يسترزق منها الكثيرون من المتستّرين بيافطات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، جعل من أي محاولة للإصلاح الجذري رهانا صعب المنال، ومن أي مسعى لاستعادة قوة وهيبة وسيادة الدولة عرضة للتآمر في الداخل والخارج، ولاسيما في ظل الوضع الصعب ماليا واقتصاديا الذي تمر به تونس.
إن قرار القضاء التونسي بإصدار مذكرة دولية لاعتقال المرزوقي قد يثير الكثير من الانتقادات، ولكنه يمثل رسالة واضحة المعالم للداخل والخارج، مفادها أن أي شخص لن يكون بمنأى عن المتابعة إذا ارتكب ما يوجبها، وأن الرئيس سعيد يتجه لتزعّم مرحلة حاسمة قد تستمر طويلا وقد تفرز الكثير من الصدمات خلال الفترة القادمة، وبالتالي فهو مستعد لمختلف المواجهات، ولكن على أن تكون أجهزة ومقدرات الدولة ومنها القضاء معه وليست عليه.