قيس سعيّد.. تعلّم المشي بين حقول الألغام
أمين بن مسعود
يمكن تلخيص اللخبطة القائمة حاليا بين مؤسسة الرئاسة التونسية ووزارة الخارجيّة، بأنّها نتاج “عدم اعتياد الوافدين الجدد إلى قصر قرطاج على تقاليد الدولة التونسيّة ومؤسساتها، واستعصاء هضم الدولة التونسية سياسات الارتجال والانطباعية والثورية الزائدة عن حدّها”.
الأزمة بين مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية معقّدة ومركّبة جدّا. من بين مظاهرها العجز عن إدارة مسألة تقديم تونس مشروع قرار باسم المجموعة العربية والإسلامية في مجلس الأمن ضدّ صفقة القرن. ومن بين تجلّياتها أيضا إصدار مؤسسة الرئاسة لبيان تفسيري حول ذات القضية، يتضمّن اتهاما لممثل تونس السابق في المنظمة الأممية بالسعي لاستدرار دعم الكيان الصهيوني ضدّ بلاده. ومن تجسيداتها أيضا دخول وزارة الخارجية التونسية على الخطّ لتقديم موقفها حيال مُشاركة فريق التنس في بطولة التقى خلالها بفريق إسرائيلي.
قضيّة التطبيع مع إسرائيل على أهميتها المفصليّة، تبقى جزءا من الكلّ، أو بعبارة أدق هي العيّنة الأبرز حاليا في مشهد الاضطراب والتلكّؤ والتردّد والتلعثم وضبابية الموقف والرؤية الدبلوماسية في عهد الرئيس قيس سعيّد.
استدعاء المقاطع الأخرى لمشهد الدبلوماسية التونسية يُساعد على حسن قراءة الصورة ككلّ، فالموقف التونسي حيال الوضع في ليبيا غير واضح، وكذلك حيال التدخل العسكري التركي في ليبيا وبحثه عن دور أمني وفي مجال الطاقة على الشريط البحري والبريّ الجنوبيّ أيضا ضبابيّ بشكل كبير. هذا دون الحديث عن القضايا الأخرى التي لم تُفتح بعد على ساكن قرطاج، على غرار الوضعية في المغرب العربي الكبير والمجال الأفريقي والأزمة في اليمن وعودة سوريا إلى الجامعة العربيّة وغيرها من المسائل التي تجسّد “حقول ألغام دبلوماسية” قابلة للانفجار في وجه كلّ جاهل بحيثياتها وإكراهاتها.
وكلّما استمرّ هذا الغُموض في رسم السياسات الدبلوماسية والاستراتيجية تكرّس التذبذب والتخبّط بين هياكل الدولة ومؤسساتها حيال القضايا الداخلية والخارجيّة، وهو ما يسيء كثيرا لصورة تونس ولمصداقيتها ولرأسمالها الرمزي والاعتباري كدولة ذات رؤية دقيقة في علاقاتها الخارجية وفي القضايا الإقليميّة والدوليّة.
يعود الغموض جزئيا إلى فشل قيس سعيّد حتى الآن في تعيين فريق استشاري في القصر متناغم مع بعضه ومتناسق مع رؤاه الدبلوماسية. وفي جزء آخر ترجع الضبابيّة إلى قُصور الطبقة السياسية الحالية في تشكيل حكومة قادرة على تسهيل عمل وزارة الخارجية وعلى تأثيث عملها في مستوى السفراء والقناصل وترتيبه. وفي جزء ثالث يعود التلعثم إلى غياب مركز استراتيجيّ للتفكير في السياسات العامة وفي رسم العلاقات الإقليمية والدولية، الأمر الذي أفقد تونس منذ مدّة القدرة على استقراء القضايا واستشراف المستقبل.
وفي الكثير من الحالات، فإنّ التمسّك بالعقيدة الدبلوماسية للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، كانت تُسترجع خطابيا على سبيل فقدان الحيلة وافتقاد السبل، وليس على سبيل استرداد التصوّر العامّ الذي يتطوّر وفق المسائل الآنية والقضايا العاجلة.
بعبارة أدقّ وأوضح، تتجاوز مسألة التطبيع وإن رُسمت بملامحه، وتفوق الرئيس قيس سعيّد وإن سُجلت على عاتقه، وتتجاوز كثيرا مقولات “تقاليد الدبلوماسية التونسية” وهي حقّ يراد به غيره!
الدبلوماسية التونسية تُعاني من “سبات استراتيجيّ” في وضع الخيارات الاقتصادية واجتراح البدائل وصناعة آفاق الحلول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتقديم تصوّر جديد للعمل الدبلوماسي النشيط والفاعل والمُبادر، في إطار تقاليد الدولة التونسية في العلاقات الدولية.
كيف لهذه الدبلوماسية أن تُعيد استكشاف بواطن العالم، وهي دون مركز دراسات استراتيجية كبير وثقيل ووازن ومؤثر، يضع الأولويات ويرسم التصورات، ودون صناعة رمزية ناعمة تقدّم لصورة تونس من البوابات الخلفية والأمامية للأمم والدول، وتدخل العقول قبل الأسواق والأفئدة وقبل الموانئ والمطارات.
هكذا يصير التطبيع جزءا من المشهد المعقدّ، ومظهرا من مظاهر الضبابية المؤسساتية في تونس ما بعد الثورة. وقد يكون من بين مشاكله الكبرى أنّ الأمر صادف طرحه من قبل الدولة التونسيّة في زمن “صفقة القرن” وفي وقت الرئيس الأميركي دونالد ترامب وفي عهد الضعف العربيّ وفتك أمراض الميليشيات الطائفية والإرهابية بالجسد العربيّ المريض.
مُشكلة التطبيع مع الكيان الصهيوني متمثلة أساسا في أمرين، الأولّ أنّها لم تحظ في تونس بالحوار الاجتماعي والسياسي والإعلامي الكبير، نذهب على أساسه إلى تجريمه الرسمي والقانونيّ والمؤسساتيّ أو تحويله إلى سياسة رسمية للبلاد. والثاني أنّ المشكلة يُراد لها من قبل الفاعلين السياسيين أن تبقى قميص عثمان وجزءا من سردية المظلومية والبكائيات المزعومة وعنوان عنتريات كاذبة دون أن تتكرّس في شكل قانون واضح. فلا المجلس التأسيسي قبل بـ”دسترة” تجريم التطبيع، ولا مجلس النواب قبل بـ”تقنينه” رغم وجود مشاريع قوانين لهذا الغرض.
وفي كلّ الحالات، فإنّ الجميع وبلا استثناء يتحمل مسؤولية التردي الدبلوماسي، من قيس سعيّد الذي لا بد له من طرح برنامج ورؤى دبلوماسية حقيقية وتعيين فريق متناغم، إلى مسلسل تشكيل الحكومة الذي طال أكثر مما يجب، وصولا إلى غياب نهج دبلوماسي مستقر ومراكز دراسات استراتيجية، في وقت تقدم فيه النخب السياسية صورة تعيسة عن تونس داخل البلاد وخارجها. ولذلك لم يفكّر العقل السياسيّ التونسي حتى الآن بالصناعات الناعمة ويبدو أنه لن يفكر!
القضية أبعد من مجلس الأمن ومن التطبيع، وهي تكمن في المقولات النمطية والدبلوماسية الفاشلة وثقافة الهزيمة.