كارثة “دانيال”.. ومأساة ليبيا
منذ أكثر من أسبوع تحدث خبراء الأرصاد الجوية عن مخاطر حقيقية تواجه ليبيا بسبب عاصفة “دانيال” التي ضربت منذ الرابع من الشهر الجاري عددا من دول الضفة الشمالية الشرقية للمتوسط وخاصة تركيا واليونان. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ماذا فعلت سلطات طرابلس وبنغازي للوقاية من تلك المخاطر؟ هل اجتمعت لجان الطوارئ؟ وهل تم التنسيق بين الحكومتين المتنافستين على النفوذ؟ هل جرى إعداد خطة لتقاسم الأدوار والمهام؟ وهل قامت الجهات الرسمية بمخاطبة مواطنيها ودعوتهم للحذر؟
أدت عاصفة “دانيال” إلى مقتل العشرات في تركيا واليونان وبلغاريا وغيرها، فيما وصل عدد الضحايا في شرق ليبيا إلى الآلاف، وخاصة في درنة التي دفعت غاليا ثمن الإهمال الحكومي الذي طالها لعقود. بعض المؤشرات تتحدث عن حوالي أربعة آلاف من السكان المحليين وربما سيكون الرقم أكبر بعد أن جرفت السيول أحياء كاملة إلى البحر في مشهد غير مسبوق.
لا أحد يعرف بالضبط كيف تعاملت السلطات المتخصصة مع سدود درنة. هل نزعت عنها الأوحال والطمي ومسببات الضغط المائي وسوء الصيانة؟ وهل تم ترتيب الظروف الملائمة لتأمين السدود عبر “تنفيسها” حتى لا تحدث تلك الانفجارات العظيمة كما حدثت بالفعل فجر الاثنين؟
كانت العاصفة وهي تقترب من الساحل الليبي تنذر بوضع كارثي قد يحل بالمنطقة الشرقية، لكن لا أحد تعامل مع ذلك الاحتمال بما يستحق من جدية، نسي المسؤولون أو ربما تناسوا أن مدن الساحل الشرقي تقع في منحدرات تصب في البحر، وأن أيّ أودية أو سيول قادمة من جنوبها قد تدفع بأحيائها الفقيرة والمهمشة وغير المحصنة إلى أوضاع مأساوية. لم يكن بوسع اللجنة العليا للطوارئ والاستجابة السريعة ولجان الطوارئ والاستجابة السريعة الفرعية في كافة المدن والمناطق أن تحول دون حصول الكارثة، فالموضوع كان يحتاج إلى طاقات أكبر وإمكانيات أكثر وتنسيق حقيقي بين جميع الفاعلين الأساسيين، بالإضافة إلى كفاءات مؤهلة على أعلى مستوى لمواجهة الكوارث.
حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس والتي تزعم دائما أنها السلطة الشرعية الوحيدة في البلاد، لم تعقد اجتماعا لمجلس الوزراء إلا بعد حصول المكروه. قال رئيسها عبدالحميد الدبيبة أنه سيوجه مساعدات مالية عاجلة إلى البلديات، وقرر رئيس الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب أسامة حمّاد تخصيص 200 مليون دينار أي حوالي 42 مليون دولار لإغاثة المناطق المتضررة. في مثل هذه الظروف لا يمكن استبعاد الفساد الذي تحول إلى ظاهرة واسعة الانتشار منذ عقود. غالبا ما يذهب جزء مهمّ من الأموال المرصودة إلى جيوب اللصوص.
في العام 2022 احتلت ليبيا المرتبة 171 من جملة 180 دولة حسب مؤشر مدركات الفساد لتكون بذلك ضمن الدول العشرين الأكثر فسادا في العالم. بحسب منظمة الشفافية الدولية، فإن أسباب هذا الترتيب تعود إلى تداخل الفساد والنزاع والأمن بشكل عميق، حيث أدّت عقود من عدم المساواة والفقر والفساد إلى تأجيج التوترات أثناء الربيع العربي، ما تسبب في وضع أمني هش واستمرار الاضطرابات.
تهالك البنية التحتية والذي أدى إلى انهيارها، خاصة في شرق البلاد، فتح عيون الليبيين على الواقع الكارثي للسدود والجسور والطرقات والوحدات السكنية وغيرها، وكشف عن مستويات العبث التي عانت منها البلاد منذ ثمانينات القرن الماضي، وعن فشل الدولة في تحقيق الخدمات الضرورية لمواطنيها بينما كانت أموالها الطائلة تذهب إلى المصارف الأجنبية. حاليا لا يزال حوالي 200 مليار دولار مجمدة في شكل أصول وودائع واستثمارات طبقا لقراري مجلس الأمن 1970 و1973 للعام 2011.
علينا أن ندرك أن تلك الأموال التي تكفي لإعادة بناء ليبيا من جديد لا تزال تحت طائلة التجميد، وخاصة في الدول الغربية منذ أكثر من 12 عاما، وقد لا تعود إلى أصحابها أبدا. لا يزال المجتمع الدولي يعمل بقوة لمنع التوصل إلى الشروط الضرورية لاستعادة تلك الأموال. هناك شبكات فساد متنفذة في الداخل تعمل بدورها على التنسيق مع القوى الأجنبية من أجل التمكن من نهب الأرصدة.
في الكثير من الدول هناك حكومات تقول إنها تحارب الفساد، وفي ليبيا تعتبر ممارسة الفساد، لا مقاومته، أولوية لدى الحكومات المتتالية التي تزعم الحكم باسم قيم الثورة والديمقراطية. الأغرب من ذلك أن الفاسدين قبل 2011 نجحوا في أن يكونوا الأسرع خطى نحو التطبيع مع عهد فبراير. وبعضهم وصل إلى السلطة فعلا، ووجد الطريق مفتوحة لاستئناف رحلة نهب المال العام، وبأريحية أكبر.
أكثر ما يثير الحنق في هذه الأزمة، أن هناك من المسؤولين الحاليين في غرب البلاد وشرقها، من بدأوا بالتخطيط فعلا لطريقة نهب ما يمكن نهبه من الأموال التي سيتم تخصيصها لإعادة إعمار المناطق المنكوبة. يوجد اليوم مسؤولون كبار في أرصدتهم بالبنوك مبالغ ضخمة ولديهم استثمارات كبرى في دول عدة، ومنهم من اشتروا جنسيات وحصلوا على ضمانات بعدم الملاحقة بعد استبعادهم عن الحكم في يوم من الأيام. المسألة مرتبطة بعقلية راسخة في المشهد السياسي وتجد دعما غير مباشر من المجتمع عبر توفير الغطاء القبلي أو الجهوي أو السياسي للصوص.
كشفت كارثة “دانيال” عن حقائق مؤلمة، من بينها أن السلطات الليبية، التي تتصارع على الحكم والثروة والسلاح والنفوذ وتتنافس على التبعية للقوى الإقليمية والدولية، لم تنتبه إلى قضية تشغل كل العالم وهي التغيير المناخي الذي من بين تعريفاته التطرف في الظواهر الطبيعية، وخاصة في المناطق الساحلية، ولم تستطع توحيد جهودها وإمكاناتها في أهم تحدّ وجودي بالنسبة إلى أعداد كبيرة من الليبيين. لم تعتقد حكومتا طرابلس وبنغازي وهما تعلنان استعدادهما لمساندة المغرب الشقيق في مواجهة آثار الزلزال المدمر، أن بلادهما موعودة بكارثة قد تكون أكبر، كان بالإمكان التقليص من خسائرها بالتخطيط العلمي والعمل الجدي والتضامن الفعلي.
الآلاف من القتلى والمصابين والمفقودين، خسائر حرب جديدة لم تطلق فيها رصاصة واحدة. حرب انتصر فيها التهميش واللامبالاة والفشل الحكومي الذريع والفساد المدمر في بلد ثريّ محكوم على الأغلبية الساحقة من مواطنيه بالفقر والحرمان والإهمال إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.