ليبيا بين كارثة درنة وترشح الصدّيق حفتر للرئاسة
ما قاله الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية بيتيري تالاس، من إمكانية تفادي سقوط معظم الضحايا جراء الفيضانات التي خلفت آلاف القتلى والمفقودين شرق ليبيا، بمجرد “إصدار إنذارات تمهيدا لإجلاء السكان”، يكشف طبيعة الكارثة التي أدت إلى إبادة الآلاف، وخاصة في مدينة درنة، ويؤكد أن الأمر لا يتعلق بعاصفة رعدية غير مسبوقة أو بتساقطات مطرية فاقت المعدلات، وإنما بجريمة دولة مكتملة العناصر انبنت على الإهمال والفساد والتلاعب بمصائر الناس.
تعرف ليبيا تحالفا معلنا بين مركز النفوذ السياسي والمالي والاقتصادي وشبكات الفساد، سواء في غرب البلاد أو في شرقها، وبامتدادات واسعة النطاق إقليميا ودوليا، فيما يواجه الشعب أعلى مستويات الاستهانة بالحياة من قبل السلطات التي أوصلتها الصدفة إلى الحكم وخدمتها المساومات في البقاء على كراسيها.
مع ظهور الملامح الأولى للكارثة اشتغلت ماكينات السلطات الرسمية والموازية على هدف واحد وهو تعليق المأساة على حبال القضاء والقدر، أو تلبيسها بمفاجآت الطبيعة التي تأتي بأكبر مما يستطيع البشر مواجهته. ولم يتم التوقف عند الحقيقة الصادمة وهي أن ما حدث كان بحكم الإهمال الذي يصل إلى مستوى المؤامرة، وعندما يكون من قبل السلطات المسؤولة يتحول آليا إلى جريمة دولة يستحق الواقفون وراءها الملاحقة القضائية.
يدرك المجتمع الدولي أن ما حدث في ليبيا ليس بسبب عاصفة “دانيال”، وإنما نتيجة العبث السياسي والإداري والفساد المالي، والصراع الدائم على الحكم، والاستمرار في اعتماد مبدأ الغنيمة في التعامل مع السلطة والثروة، ضمن سياقات أبعد ما تكون عن قيم العصر ومفهوم الدولة.
لم يتم تحذير السكان المحليين من مخاطر البقاء في المصبّ الطبيعي للسد، ولم تطلب منهم السلطات التوجه إلى مناطق آمنة، ولم يعلن أي طرف عن اتخاذ تدابير عملية قبل وصول العاصفة، فيما كانت لدى الخبراء معطيات عن إمكانية انهيار قدرات السدود على الصمود في وجه التدفق الهادر للمياه. كان أغلب الناس خاضعين لثقافة التسليم بالغيبيّات واستبعاد العقل من محاولة التعامل مع شروط أحكام الطبيعة. هناك أغلبية تعودت على تفسير كل كارثة طبيعية تقع في بلد آخر بأنها غضب من الله لا محيد عنه.
لا ننسى أن السلطات في غرب البلاد وفي شرقها تتبنى الخطاب السلفي لتوفير غطاء شرعي لممارساتها الفاسدة. منذ سنوات والقوى الأمنية مجندة تحت ذلك الغطاء لمحاربة السحر والشعوذة، فيما لا أحد يتحدث عن الشعوذة السياسية وشبكات الفساد ودواعش المال العام وعملاء الخارج وسماسرة السيادة الوطنية في أسواق التوازنات الإقليمية والدولية.
احتاج الأمر إلى آلاف القتلى لكي يتابع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة وضع السدود، خلال اجتماع مع الإدارة العامة للسدود في وزارة الموارد المائية بحضور وكيل وزارة الموارد المائية ووزير التخطيط المكلف ووزير الدولة لشؤون رئيس الحكومة ومجلس الوزراء وعدد من الخبراء، ولكي يتم التطرق إلى ملف صيانة وتطوير عدد من السدود ومن بينها سد وادي درنة وأبومنصور المتعاقد عليه منذ العام 2007 بعد أن توقف العمل فيه منذ العام 2011 من قبل شركة أرسيل التركية التي غادرت ليبيا عام 2011، لاسيما أنه جرى تخصيص 39 مليون دينار للعقد، ثم تسييل 12 مليون دينار منها، ومازال الاعتماد المستندي مفتوحا لباقي المخصص.
لا أحد يستطيع تفسير موقف السلطات في شرق البلاد التي كان من المفترض أن تكون على علم بوضعية السدود، وهي التي تمتلك سلاح الهندسة العسكرية. ربما كانت مشغولة بالاستثمار في الفضاءات التجارية الكبرى والشركات الاستهلاكية وفي المظهر العام لبنغازي كواجهة للحكم.
عندما يصل الأمر إلى الحديث عن ترشح الصديق حفتر للمنافسة على منصب رئيس الدولة، والإعلان عن ذلك في وقت يتلقى فيه الناس أخبار كارثة درنة فإن الوضع بات أقرب إلى العبث. هناك فكرة عامة تبلورت خلال السنوات الماضية مفادها أن أسرة حاكمة تشكلت في شرق البلد لا تمتلك شرعية الأسرة السنوسية، وجاءت في ظروف غير مناسبة للتماهي مع حالة القذافي، حيث من المفترض أن الظرف الحالي هو ظرف البناء الديمقراطي واحترام صوت المواطن، وليس ظرف تقاسم السلطة بين أفراد الأسرة الواحدة تحت غطاء شرعية السلاح والسيطرة على منابع الثروة واستغلال التوازنات القبلية للإمساك بمقاليد السلطة.
الثابت أن الصدّيق لا يمتلك حاليا القاعدة الشعبية التي يمكن أن تفسح أمامه المجال لتحقيق هدفه السياسي، ولذلك فإن تصريحه الأخير بخصوص الترشح للاستحقاق الرئاسي ينطوي على جملة من المؤشرات المهمة، من بينها أن الانتخابات الرئاسية لا تزال بعيدة المنال، وكلما تم تحديد موعد لها من قبل المجتمع الدولي تكتل الفرقاء سواء بتوافق مباشر أو غير مباشر لتأجيلها والدفع بها إلى المجهول، وهو ما بات معلوما بالضرورة لدى الشعب الليبي ولدى القوى الإقليمية والدولية.
اليوم هناك توافق، وإن كان غير معلن، بين أسرة آل حفتر الحاكمة في بنغازي وأسرة آل الدبيبة الحاكمة في طرابلس على عدم مساس كلّ منهما بمصلحة الأخرى. خلال الأسابيع الماضية لوحظ صمت الرجل القوي في الشرق على أحداث طرابلس الدموية التي أدت إلى سقوط العشرات من القتلى، وعلى ما سمي بملف “التطبيع” بعد اجتماع وزيرة خارجية الوحدة نجلاء المنقوش بنظيرها الإسرائيلي إيلي كوهين، وعندما جاءت فيضانات درنة حاول الطرفان تجنب التصعيد بينهما، وكأنهما متفقان على ضرورة تجاوز الكارثة بأقل التكاليف السياسية، فما تم التوصل إليه من وراء اللقاءات المتعددة بين ممثلي الطرفين هو إما انتخابات مضمونة النتائج أو إبقاء الوضع على ما هو عليه.
وأكدت تصريحات الصديق كذلك أن هناك تنافسا على صدارة المشهد بينه وبين شقيقه صدّام الذي يعتبر المبعوث الشخصي لوالده والقائد الميداني لقوات النخبة، وخلال الأشهر الماضية تم التطرق إلى مساع أوروبية وأميركية لإقناع والده بعدم الترشح للاستحقاق الرئاسي وترشيحه بدلا عنه، وهو أمر يرى البعض أنه أقرب إلى الفخ منه إلى الحلّ؛ فصدام الذي يعرف جيدا كيف يدير مهامه السياسية والعسكرية ويشرف على استثمارات الأسرة في الداخل والخارج لا يمكنه بأي شكل من الأشكال أن يعوّض والده في المسار السياسي ولا أن يحتل مكانه، لا اليوم ولا غدا.
ينحدر حفتر من سرت معقل قبيلته “الفرجان” ذات الامتدادات الواسعة في المنطقة الشرقية، ولديه ثمانية أبناء أكبرهم الصدّيق الذي يناديه المقربون منه بالدكتور، ويقولون إنه متخصص في هندسة البنى التحتية، وإنه من سيقود عملية إعادة بناء ليبيا. في أحيان كثيرة يدفع الصدّيق بمحرري الصفحات الموالية له على مواقع التواصل الاجتماعي إلى المناداة بترشيحه لرئاسة ليبيا. يقول البعض إنه يحاول أن يكون نسخة ثانية من سيف الإسلام القذافي، في حين أن شقيقه صدام يبدو أقرب إلى شخصية المعتصم، لكن أنصار النظام السابق يرون أن هذا التشبيه لا يجوز، وأن السياقات مختلفة والمسارات كذلك، وأن أبناء القذافي فتحوا أعينهم على الحياة ووالدهم في الحكم في حين أن أبناء حفتر خبروا السلطة والثروة والنفوذ وهم كبار، ويعتبر التنافس بينهم أمرا طبيعيا.
في أبريل الماضي، ومع بداية الحرب الأهلية في السودان، وصل الصدّيق حفتر إلى الخرطوم، في زيارة للسودان التقى خلالها برئيس مجلس السيادة السوداني وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ومع انتشار الخبر صرّح بأن اللقاء لم يكن سياسيا، لكن العارفين بخفايا الأمور يدركون أن هناك تحالفات ذات أبعاد داخلية وإقليمية ودولية، وأن تحركات نجل حفتر غير بعيدة عن طموحاته السياسية التي أصبحت معلومة لدى الجميع.
بقطع النظر عن تطلعات الجنرال ونجليه الصديق وصدام، وبقطع النظر عن مشروع آل الدبيبة لتأبيد موقعهم في السلطة، فإن الوضع العام في ليبيا يحتاج إلى هبة شعبية حقيقية قادرة على فرض واقع مختلف. فما حدث في درنة يمكن أن يحدث في أي مكان آخر، وبأي شكل ممكن، طالما أن هناك من يواصلون الاستهانة بالشعب ولا يرون الدولة إلا بقرة ثدياها حقول النفط وحليبها المليارات المنهوبة دون رادع.