ليز تراس.. رفعها الطموح وأسقطتها الأيديولوجية
حميد الكفائي
حققت رئيسة الوزراء البريطانية المنصرفة، ليز تراس، ما لم يحققه أي زعيم سياسي بريطاني قبلها، إذ صارت رئيس الوزراء الأقصر ولاية في تأريخ بريطانيا، إذ خدمت 44 يوما فقط.
تميزت تراس بطموح جامح منذ سنيها الأولى، فقد دفعها طموحها إلى أن تهجر إرث عائلتها اليساري لتلتحق بحزب الديمقراطيين الأحرار الوسطي، لتهجره عام 1996 إلى جناح الوسط في حزب المحافظين المؤيدين لبقاء بريطانيا في الاتحاد الاوروبي، لكنها غادرته أيضا، بعد أن أظهر استفتاء عام 2016 غالبية شعبية صغيرة مؤيدة لمغادرة الاتحاد، فتحولت إلى الجناح اليميني لحزب المحافظين، المناوئ للبقاء في أوروبا، الأمر الذي مكَّنها من أن تكون زعيمة للحزب، رغم حداثة تجربتها السياسية وتقلبات مواقفها المتكررة.
لكن المشكلة التي واجهتها أنها اعتنقت نظرية اقتصادية يمينية، تقوم على خفض الضرائب للشركات والأغنياء من أجل أن تتوفر لديهم الأموال كي ينفقوها في الاستثمار الذي سيؤدي في نهاية المطاف، حسب النظرية، إلى تنمية الاقتصاد وتوفير الوظائف والخدمات والبضائع للأقل ثراءً في المجتمع. هذه النظرية التي تبناها الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريغان، كان يمكن أن تنجح، وإن جزئيا، لو كانت الظروف الاقتصادية والسياسية والدولية مختلفة.
لم تُعِر تراس اهتماما للظروف الاستثنائية التي تمر بها بريطانيا، ولا لعدم الاستقرار الذي يسود العالم، من ارتفاع معدل التضخم وأسعار الفائدة، إلى زيادة الإنفاق العسكري، والشحة المالية التي خلفتها جائحة كورونا في الدول الصناعية، وأخيرا وليس آخرا، الحرب الروسية في أوكرانيا التي تسببت في تقليص منتجات الطاقة وارتفاع أسعارها.
لم تحسب حسابا لردة فعل الأسواق المالية العالمية، التي تؤثر تأثيرا مباشرا على الاقتصاد البريطاني، خصوصا تمويل الحكومة عبر اقتناء سنداتها. كانت تعتقد جازمة، ربما لقصر تجربتها السياسية، أو عدم تعمقها في الشؤون الاقتصادية، بأن خطتها لتنمية الاقتصاد سوف تنجح خلال السنتين المقبلتين المتبقيتين من عمر حكومة المحافظين، وأن التنمية الاقتصادية، عبر نظرية “التقطير التدريجي” ستكون عاملا مهما لتثبيت زعامتها ثم فوزها في الانتخابات المقبلة.
لكن هذا الاعتقاد كان مجرد وهم، أو تفاؤلا مفرطا، وقد اتضح خواء مجادلاتها الاقتصادية أثناء حملتها الانتخابية، مع منافسها، ريشي سوناك، الذي كسب تأييد معظم نواب حزب المحافظين، لخبرته في الإدارة المالية وتفهمه للأوضاع الاقتصادية العالمية، بينما حصلت تراس على تأييد معظم أعضاء حزب المحافظين، الذين كانت لهم الكلمة الفصل في انتخاب زعيم الحزب، فهكذا قضت قواعد الانتخاب التي وضعتها لجنة 1922 المسؤولة عن إدارة انتخاب الزعيم.
سعت تراس إلى تقليد رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة، مارغريت ثاتشر، التي اشتهرت بقوة الشخصية والصرامة في اتخاذ القرار وعدم التراجع، وقد اكتسبت بذلك لقب “السيدة الحديدية”، لكنها، أهملت، أو ربما تناست، أن زعامة ثاتشر تطورت خلال فترة طويلة، وفي ظل ظروف مختلفة، فهي لم تقفز إلى السلطة بين ليلة وضحاها، أثناء أزمة حكومية، كما فعلت تراس، بل كانت وزيرة للتعليم لأربع سنوات في حكومة أدوارد هيث، من عام 1970 حتى 1974، ولم تتصدَ لزعامة حزب المحافظين إلا بعد خسارة الحزب مرتين في انتخابات فبراير وأكتوبر من عام 1974، التي فاز فيها حزب العمال بزعامة هارولد ولسون.
كانت ثاتشر تنتمي إلى الجناح اليميني منذ بداية حياتها السياسية، بينما انتمى زعيم الحزب آنذاك، أدوارد هيث، إلى الجناح اليساري، وعندما فشل اليسار في الانتخابات، انتعشت نظريات اليمين السياسية، بعد أن وضع اللوم كله على اليسار لخسارته الانتخابات مرتين متتاليتين. وبعد أربع سنوات من زعامة حزب المحافظين في المعارضة، فازت ثاتشر في انتخابات عام 1979، إثر المصاعب التي واجهتها حكومة جيمز كالاهان العمالية، خصوصا تلك التي خلقتها نقابات العمال بإضراباتها المتكررة، فيما سمي حينها بـ “شتاء الغضب”، الذي أثار سخط الشارع البريطاني ضد حزب العمال. وبينما كانت النقابات الحليف الطبيعي لحزب العمال، والمؤسس والممول له، فإنها في الوقت نفسه تسببت بشكل مباشر في إسقاط حكومته.
كانت سياسة ثاتشر تقوم على تقليص القيود واللوائح المقيدة لحركة الاقتصاد، خصوصا من القطاع المالي، وبيع وسائل الإنتاج المملوكة للدولة إلى القطاع الخاص، وتقليص سلطة نقابات العمال، التي تعززت كثيرا في عهد حكومة حزب العمال. وقد واجهت صعوبات اقتصادية وحكومية كثيرة في مسعاها هذا، الذي تسبب في رفع معدل البطالة وزيادة الفقر. وقد اندلعت في عهدها تظاهرات صاخبة وأعمال شغب في مناطق عديدة، منها بريكستون، جنوبي لندن، وتوتنهام شمالي لندن، اللتان يقطنهما الفقراء، ومعظمهم من أصول أفريقية. واجهت ثاتشر تلك المصاعب بحزم وحكمة، وكان حزبها، بجناحيه، مساندا لها، رغم تدني شعبيتها، لأنها أشركت كل أجنحة الحزب في الحكومة.
لم تتمكن ثاتشر من ترسيخ زعامتها في الحزب والدولة إلا بعد مضي ثلاث سنوات مضطربة، على قيادتها للحكومة، ومواجهتها مشاكل كثيرة ومعقدة. لم تتراجع عن سياساتها رغم تدني شعبيتها، ولم تكن تتوقع أنها سوف تُنتخب مرة ثانية، ولم تكترث لهذا الأمر، إذ واصلت سياساتها الصارمة في ضبط عمل النقابات وإجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية جذرية.
ومما ساعد ثاتشر على تثبيت زعامتها إقدام المجلس العسكري الحاكم في الأرجنتين، برئاسة الجنرال غالتييري، على احتلال جزر الفوكلاندز التابعة لبريطانيا، إذ تصدت ثاتشر له عسكريا، فأرسلت البوارج الحربية وطوقت الجزر وألحقت هزيمة ساحقة بالقوات الأرجنتينية الغازية، رغم البعد الجغرافي لجزر الوكلاندز عن بريطانيا، ذلك الانتصار الذي قاد إلى انهيار النظام الدكتاتوري في الأرجنتين وتأسيس نظام ديمقراطي استمر حتى عصرنا الحاضر.
وفي الوقت نفسه، كان حزب العمال المعارض يعاني من انقسامات حادة، وضعف القيادة، إضافة إلى تبنيه سياسات يسارية متطرفة، لا تنسجم مع طبيعة الشعب البريطاني المحافظة، وتتعارض مع تحالف بريطانيا التأريخي مع الولايات المتحدة. الأمر الذي قاد إلى انشقاق الجناح اليميني منه وتأسيس حزب جديد هو الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
ساهمت كل هذه الأحداث في إعادة انتخاب ثاتشر مرة ثانية، بل وفوزها فوزا ساحقا غير مسبوق في انتخابات عام 1983، ما شجعها على المضي قدما في إصلاحاتها الاقتصادية وإضعاف نقابات العمال وإصلاح القوانين الناظمة لها، بحث لا تسمح بأي إضراب عمالي إلا بعد استفتاء الأعضاء، والذي قاد إلى هدوء ساد القطاعات الرئيسية في الاقتصاد، خصوصا قطاعات النقل ومناجم الفحم والصناعة، ومكنها من بيع وسائل الإنتاج إلى القطاع الخاص، وتحويل الاقتصاد كليا إلى اقتصاد يقوم على الخدمات والسياحة والإنتاج المربح للسلع والخدمات.
كانت ثاتشر منسجمة مع عقيدتها الرأسمالية وتوجهها الوطني، وقد قادت حزبها بحكمة، فلم تقصِ خصومها بل استوعبت معظمهم، وأبقت الكثيرين منهم في حكومتها حتى النهاية، مثل بيتر ووكر، بينما خرج الصقور تدريجيا، ابتداء من وزير الخارجية، فرانسيس بيم، الذي كان من أوائل المعترضين على سياساتها، فلم تشركه في حكومتها لعام 1983، ووزير الدفاع، مايكل هزلتاين، الذي استقال عام 1986، إثر خلاف حول موقف ثاتشر المناوئ لمنح عقود عسكرية لشركة أوروبية، إلى وزير المالية، نايجل لوسون، الذي استقال عام 1989 إثر خلاف معها حول السياسة الاقتصادية، وأخيرا وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء، جفري هاو، الذي استقال عام 1990، تلك الاستقالة التي تسببت في تأليب حزب المحافظين عليها، وإقدام مايكل هزلتاين على تحدي زعامتها، وإنهاء حكمها.
ومع كل إنجازات ثاتشر الاقتصادية والسياسية، وفوزها في الانتخابات لثلاث دورات انتخابية، فإنها لم تتمكن من البقاء في الحكم حينما اصطدمت سياساتها اليمينية، التي ازدادت تشددا، بعامة الشعب، فقد أثارت “ضريبة الرأس”، التي عاملت الفقراء والأثرياء على حد سواء، احتجاجات واسعة، قادت إلى سقوطها المدوي في نوفمبر عام 1990.
ليز تراس لم تمتلك تأريخ ثاتشر ولا خبرتها ولا حزمها، ولا حنكتها السياسية. فبينما ضمت ثاتشر خصومها السياسيين في حكومتها، شكلت تراس حكومتها من الموالين فقط، إذ لم تُدخِل فيها سوى أصدقائها، المؤمنين بنظريتها الاقتصادية وتوجهاتها السياسية، وكأن الأمر شأن شخصي، وليس شأنا عاما، الأمر الذي قاد إلى سخط حزب المحافظين منها، وتأليب خصومها عليها، الذين تمكنوا من إسقاطها خلال 44 يوما.
العمل السياسي محفوف بالمخاطر دائما، ومن يختره مهنةً، يجب عليه أن يسير بهدوء وروية، وأن يراقب أفعاله وأقواله بعناية، وأن يستمع إلى خصومه قبل أنصاره. لا يوجد في السياسة أصدقاء وأحباب. هناك دائما خصوم ومنافسون، وهؤلاء تسيِّرهم طموحاتهم في الترقي والقيادة، وهم يتربصون بمن يتقدمهم، وينتظرون فرصتهم للحلول محله.
من أطاح بثاتشر هو رفيقها القديم وساعدها الأيمن، جفري هاو. ومن أطاح بتوني بلير، كان صديقه وحليفه غوردون براون. ومن أطاح ببوريس جونسون، هو حليفه، بل صنيعته، ريشي سوناك. الحكيم في السياسة هو من يفهم أن رفاقه هم خصومه في الواقع، وهم ينتظرون فرصتهم للحلول محله، وعليه أن يحترس منهم عبر تقليل الأخطاء، وأن يراعي مصالحهم بفسح المجال أمامهم ومنحهم الأمل بتحقيق طموحاتهم.