ماكرون والصين.. هل هي صحوة أوروبية؟
إيميل أمين
لا تبدو زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة للصين، والتي دامت ثلاثة أيام مريحة لواشنطن سيما في ضوء التصريحات التي صدرت في نهايتها عن سيد الإليزيه، من حتمية العودة للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي كعملة محورية ومرتكز اقتصادي عالمي من جهة ثانية.
يتساءل المراقبون للشأن الفرنسي خاصة، والأوروبي عامة: “هل نحن إزاء صحوة سياسية أوروبية، أم لعبة ومناورة دولية هدفها دفع الصين بعيدا عن الشراكة مع روسيا ، وإغراؤها بتحالفات وعلاقات أوروبية أكثر موثوقية ، وربما يكون الأمر بتنسيق ماورائي مع العم سام نفسه ، وكأنه لعبة “الغرير” الأمريكية الشهيرة؟
قبل الجواب ، ربما ينبغي التوقف قليلا أمام شأن العلاقات الصينية الأوروبية ، والعودة بعض الشيء إلى ما قبل تفشي فيروس كوفيد ، أو الفيروس الصيني ، على حد تعبير الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
باختصار غير مخل نقول إن العلاقات من بكين إلى بقية العواصم الأوروبية بحلول العام 2018 كانت قد بلغت شأنا كبيرا جدا ، إلى درجة أن بعض الدول مثل فرنسا ، غضبت من الشراكات الإيطالية – الصينية ، والتي كان مقدرا لها أن تتجاوز الرباط العضوي بين أعضاء الاتحاد الأوربي أنفسهم.
غير أن ما جرى في زمن الفيروس الشائه وضبابية المشهد الصيني ، وما أدى إليه التقاعس الصيني ، والشمولية الداخلية لبكين التي تسببت في خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات الأوربية ، كل هذا أحدث جفوة في المشاعر ، وكبوة في العلاقات ، الأمر الذي دعا الأوروبيين لتعطيل الكثير من المشروعات الصينية الأوروبية المشتركة .
ولعله من المثير القول إن الأوروبيين وقبل كوفيد ذهبت أفكارهم ورؤاهم في طريق الاستقلال عن الناتو ، وكان الرئيس الفرنسي ماكرون عينه ، من اقترح فكرة تكوين جيش أوروبي مستقل ، وقد رأى أنه حتى لو لم يكن بديلا بالمطلق عن الناتو ، فإنه في أضعف الأحوال ، سيكون كفيلا بأن يهيئ مساحة من حرية الحركة للأوربيين وبعيدا عن ضغوطات الأمريكيين.
غير أن كل ما تقدم تغير وتبدل بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ، وعادت أوروبا بأجمعها ، فرنسيين وألمان ، بريطانيين وطليان للانضواء تحت أجنحة الناتو ، لمواجهة القيصر الجامح ، سيما أن الخوف منه لم يتوقف عند ما جرى للأوكرانيين ، بل يخشى معه أن يمتد كذلك ليصل إلى دول أوروبية أخرى.
هنا تأتي تصريحات ماكرون لتشكل علامة استفهام غير مفهومة ، بل من الصعب استيعابها بحال من الأحوال ، لا سيما في ظل هذه الأوقات العصيبة التي يخطط فيها الروس لهجوم شامل ، لا يصد ولا يرد ، عرف في وسائل الإعلام باسم هجوم الربيع ، حيث يخطط سيد الكرملين ، لإنهاء الصراع مع الجارة الأوكرانية ، وفرض سيادته مرة وإلى ماشاء الله .
قبل الغوص في معاني ومباني تصريحات ماكرون ، ربما يتحتم القول إن الأوروبيين ، بصورة أو بأخرى، قد راقتهم خطة الصين لإنهاء الحرب الأوكرانية ، وهم يدركون أن التحالف الصيني الروسي، يتعمق ويشتد يوما تلو الآخر ، وأن بكين باتت قبلة مهمة جدا للتوجهات السياسية الروسية ، وعليه فإن حظوظها في تغيير دفة أحداث الحرب ، وصولا إلى التوصل لوقف إطلاق النار كبيرة للغاية .
يوما تلو الآخر يكتشف الأوروبيون أنهم أكثر من تضرر من الحرب الروسية الأوكرانية ، وأن واشنطن نجحت بالفعل في أن تضع عصا غليظة، بين دواليب أوروبا وروسيا ، ما أبطل مفاعيل الطرح الأوراسي ، ذاك الذي حلم به الرمز الفرنسي الأشهر شارل ديغول.
خسرت أوروبا اقتصاديا من جراء توقف الغاز الروسي ، وتضررت الحياة الاقتصادية بصورة بالغة ، والقادم غير مبشر ، وبخاصة بعد أن دفعت الأضرار الإقتصادية شرائح عدة من المجتمعات الأوربية ، للمضي قدما وراء شعارات اليمين المتشدد إلى حد المتطرف، ما جعل أوروبا تخسر الكثير من سلامها المجتمعي.
أتكون زيارة ماكرون إلى الصين ، وتصريحاته المثيرة للجدل ، خطوة حقيقية ، لمنع تكرار الانفصال عن السياقات الآسيوية، ولرفض تعكير صفو التواصل مع الصينيين العائدين بقوة حول العالم ، عبر نجاحات اقتصادية، ووساطات سياسية موفقة، بجانب ملء الكثير من مربعات النفوذ التي فرغت من جراء الكثير من الانسحابات الأمريكية في العقد الأخير؟
قد يكون ذلك واردا سيما في ظل رغبة ماكرون تكريس نفسه زعيما لأوروبا ، وهي رغبة لا يواريها أو يداريها ، لكن السؤال المهم هنا: “هل لدى ماكرون توكيل من بقية القوى الأوروبية الفاعلة والمهمة ، مثل المانيا ، قاطرة أووربا الاقتصادية ، أو بولندا التي تتقدم كل يوم لتضحى رقما صعبا على الخارطة الأوروبية، بجانب بريطانيا القوة العسكرية الأوروبية المتقدمة ، والحليف المستمر والمستقر لواشنطن”؟.
فارق كبير بين رؤية ماكرون للانسلاخ عن الولايات المتحدة الأمريكية، والشراكة مع الجانب الآخر من الأطلسي، في هذا التوقيت، وما ذهب إليه شارل ديغول في الأوقات والأزمات السياسية الصعبة ، في ستينات وسبعينات القرن الماضي ، حين ادلهمت الخطوب وحمى غضب المواجهات مع الإاتحاد السوفيتي ، إذ عزز الجنرال الذي حرر فرنسا في الحرب العالمية الثانية ، الشراكة مع الناتو برأس حربته الأمريكية .
هل هذا هو الوقت القيم الذي يمكن لأوروبا أن تنفصم فيه عرى علاقاتها مع الشريك الأمريكي ؟
الشاهد أن الجواب غامض حتى الساعة ، وربما يحتاج إلى بعض الوقت ، ليدرك الجانب الأوروبي قصد ومرام ماكرون ، وهل حديثه بالتحديد عن تقليل أوروبا اعتمادها على الدولار ، هدفه تعزيز علاقات بلاده الاقتصادية مع الصين ، سيما أن باريس تريد إحياء التبادل والحوار على كل المستويات مع الصين بعد انقطاع ناجم عن القيود الصارمة جدا التي فرضتها بكين في إطار مكافحتها وباء كوفيد-19 .
ربما لن نعرف ردات الفعل الأمريكية على تصريحات ماكرون في القريب العاجل ، ذلك أن واشنطن منشغلة جدا في أزمة الوثائق الخطيرة المسربة من البنتاغون .
لكن وفي كل الأحوال، سوف تبقى قضية العلاقات الأوروبية الأمريكية أمام اختبار مثير ، سيما بعد الكشف عن قيام واشنطن بالتجسس على حلفائها ومنهم الكثير من الأوربيين …
هل سيضحى ماكرون بالفعل رجل أوروبا القوي وصاحب صحوتها في مواجهة الحليف الأمريكي التقليدي؟