ما الذي يميِّز بايدن عن ترامب؟
حميد الكفائي
على الرغم من الاختلاف الواضح في شكل السياسات التي يتبعها الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، عن سياسات سلفه، دونالد ترامب، إلا أن جوهرها يهدف دون شك إلى خدمة المصالح الأميركية.
ولكن وفق رؤى ومعالجات مختلفة. ففي الوقت الذي لجأ فيه ترامب إلى التهديد واستعراض القوة العسكرية والاقتصادية، وهذا ضروري أحيانا مع البلدان المارقة، استخدم بايدن سلاح الدبلوماسية المسنود اقتصاديا وعسكريا. فالجميع يعرف قدرات الولايات المتحدة الاقتصادية والمالية والعسكرية والعلمية، ولا داعي لاستعراضها في كل مناسبة.
الاتصال الأول للرئيس بايدن كان برئيس وزراء كندا، الجارة الشمالية لبلاده، جستن ترودو، للتأكيد على الشراكة بين دول قارة أمريكا الشمالية، وكيفية مواجهة التهديد الذي يمثله فيروس كوفيد 19 للقارة التي تضم بلديهما إلى جانب المكسيك. وبين قراراته الأولى قرار وقف بناء الجدار العازل بين بلاده وجارته الجنوبية، المكسيك، واللجوء إلى حلول أقل حدة لوقف الهجرة غير الشرعية للمكسيكيين إلى الولايات المتحدة.
ولم يحُد وزير الخارجية الجديد، أنتوني بلينكن، عن هذا النهج، فكان أول اتصال رسمي له بعد تأكيده وزيرا للخارجية في الكونغرس، بوزير الخارجية الكندي، مارك غرانيو، مؤكدا على العلاقة الوثيقة بين البلدين الجارين.
وفي اليوم نفسه اتصل بلنكن بوزراء خارجية كل من المكسيك وكوريا الجنوبية واليابان، مؤكدا على وثاقة العلاقة بين بلاده وهذه الدول، وضرورة التعاون بينها لتذليل المشاكل القائمة. لم يهمل بلنكن في محادثاته الأولية مع نظيريه، الكوري الجنوبي والياباني، المشكلة القائمة مع كوريا الشمالية وبرنامجها النووي الذي يهدد جيرانها، وهم حلفاء استراتيجيون للولايات المتحدة، مطمئنا إياهم بأن سياسة الإدارة الجديدة تقوم على تعزيز العلاقة مع الحلفاء.
وكانت الدول الأربع قد تضررت من سياسات الرئيس السابق، الذي فرض تعرفات جمركية على صادرات كل من المكسيك وكندا إلى الولايات المتحدة، بينما ألغى مناورات عسكرية مشتركة مع كوريا الجنوبية، التي كانت تهدف إلى التأكيد على العلاقة الوثيقة بين البلدين، واصطدم بشدة مع الحكومة اليابانية حول السياسة التجارية، وانسحب من اتفاق “شراكة المحيط الهادئ”، على الرغم من حاجة الولايات المتحدة لتوثيق العلاقة مع البلدين الآسيويين، خصوصا في فترة تدهور العلاقة مع جارتهما الصين. لم ترُق سياسة “أمريكا أولا” التي اتبعها ترامب، لليابان، فأي اتفاق ضمن هذا المبدأ الشعبوي يعني أن مصلحة اليابان تأتي ثانيا، وهذا غير مقبول لليابان، خصوصا وأن البلدين متحالفان استراتيجيا وعسكريا، إذ تضم اليابان قواعد عسكرية أمريكية، وهناك اتفاقية الحماية النووية الأمريكية لليابان. مع ذلك، وافقت اليابان مضطرة على اتفاق ثنائي بديل لاتفاقية “شراكة المحيط الهادئ” المتعددة الأطراف، كي تتجنب فرض تعرفات على صادراتها من السيارات إلى الولايات المتحدة، تحت ذريعة “ضمان الأمن القومي الأمريكي”. لكنها سعت في الوقت نفسه لتعزيز علاقاتها مع المجاميع الاقتصادية الأخرى، كالاتحاد الأوروبي، الذي أبرمت معه اتفاق “الشراكة الاقتصادية الأوروبية اليابانية”.
من أوجه الخلاف الحادة بين الرئيسين بايدن وترامب هو الموقف من روسيا، فقد كان ترامب وديا مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي يتهمه كثيرون بأنه تدخل في الانتخابات الأمريكية لعام 2016 التي جاءت بدونالد ترامب إلى السلطة. لم يصطدم ترامب بالسياسة الروسية كثيرا، بل إنه أباح لوزير الخارجية الروسي سرا من الأسرار الأمنية الأميركية أثناء لقائه به في البيت الأبيض، بينما كان بايدن ينتقد موقف ترامب من روسيا بشدة، ما جعل الرئيس الروسي يتأخر في تهنئة بايدن على فوزه في الانتخابات.
ومن غرائب السياسة الأميركية هذه الأيام أن بايدن منع الأجهزة الرسمية الأمريكية من تزويد الرئيس ترامب بالمعلومات الأمنية، وهو عرف متبع في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لأن الرئيس السابق يمارس دورا عاما، وفي السياسة الخارجية تحديدا، إن أراد ذلك، كما فعل الرئيس الأسبق جيمي كارتر طوال أربعين عاما بعد مغادرته الرئاسة عام 1980. وقد علل بايدن منعه المعلومات الامنية عن ترامب بالقول إنه لن يحتاجها، وقد يسيء استخدامها. وقد اتفق وزيرا الدفاع السابقان، وليام كوهين وليون بانيتا، مع الرئيس بايدن في أن ترامب لايمكن إئتمانه على الأسرار الأميركية، متعللين بإباحته سرا لوزير الخارجية الروسي، وكذلك اشتراكه بالمعلومات مع أفراد عائلته الذين لديهم أعمال تجارية خاصة.
إلا أن موقف بايدن من روسيا تغير بعد تسلمه الرئاسة، ما يعني أنه مستعد لإبرام الصفقات التي تتطلبها العلاقات الدولية. فقد اتصل هاتفيا بالرئيس الروسي بعد تنصيبه بخمسة أيام، ولا غرابة في ذلك فالعلاقة بين البلدين، رغم أنها مبنية على التنافس على الهيمنة والنفوذ، إلا أن هناك ضوابط تحكمها، فهناك “معاهدة الحد من التسلح الاستراتيجي” المعقودة بين البلدين، المعروفة اختصارا بـ (ستارت)، التي تُجدَّد كل خمس سنوات والتي يحل موعد تجديدها قريبا. وقد أعلن الطرفان عن نيتهما تجديد المعاهدة لخمس سنوات أخرى.
هناك خلافات كثيرة بين الطرفين، لكن الولايات المتحدة، المتنافسة بشدة مع الصين حاليا، تحتاج لأن تحيِّد موقف روسيا تجاهها، كما تحتاج أيضا لأن تبعد خطر التنافس العسكري الروسي مع حلف الناتو. كما أن العلاقات الجيدة مع روسيا قد تساهم في التوصل إلى حل للمشكلة الأوكرانية المستعرة منذ عام 2014 والتي كلفت ما يقارب الخمسين ألف ضحية بين قتيل وجريح.
كانت أوكرانيا الدولة الثانية من حيث عدد السكان والقوة الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي السابق، وكانت تحتضن جزءا من الترسانة النووية السوفيتية. لكن أوكرانيا أعلنت استقلالها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وبسبب طبيعتها السكانية والثقافية المتنوعة، نشبت فيها خلافات سياسية وثقافية، خصوصا وأن قسما من سكانها يتحدثنون اللغة الروسية ويفضلون التقارب مع روسيا، لكن السكان الأوكرانيين يفضلون التقارب مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ما دفع روسيا لأن تحتل شبه جزيرة القرم، التابعة لأوكرانيا منذ الحرب العالمية الثانية، وتشجع أجزاءً من أوكرانيا (دونباس مثلا) على الانفصال، وتقدم دعما للانفصاليين، ما ساهم في تأجيج الاقتتال وزيادة حدته. لذلك أصبحت أوكرانيا من القضايا الشائكة في العلاقات بين روسيا والبلدان الغربية بقيادة الولايات المتحدة.
لا يستطيع بايدن أن يطرح كل المشاكل العالقة مع روسيا في اتصاله الأول، ولابد من عقد قمة روسية أميركية قريبا، لكن القضية الأهم هي بالتأكيد تجديد اتفاقية (ستارت) لتخفيض الصواريخ بين المعسكرين، كي يتفرغ الرئيس لمعالجة الخلافات مع الصين وباقي القضايا الملحة.
أما في الشرق الأوسط، فإن علاقات الولايات المتحدة تقوم على تحالفات ثابتة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي ومصر والأردن وإسرائيل، وأضيف السودان إليها مؤخرا. ولأن عصر بايدن هو “عصر تعزيز التحالفات” كما وصفه وزير الخارجية، أنتوني بلنكن، فإن العلاقات مع هذه البلدان الحليفة سوف تتعزز مستقبلا، ربما بأفضل مما كانت عليه في عهد ترامب.
وقد أعلنت الإدارة الأميركية بأنها ملتزمة بحماية دول الخليج العربي والمملكة العربية السعودية تحديدا. لكن المعالجات تختلف بسبب تغير الظروف، خصوصا بعد جائحة كرونا التي خلفت تأثيرات مدمرة في كل البلدان تقريبا.
هناك ظروف إنسانية صعبة في اليمن دفعت الإدارة الأميركية إلى تغيير موقفها، ولكن الموقف تجاه جماعة الحوثي لم يتغير، إذ أوضح بيان وزارة الخارجية الأميركية أن الموقف قد اتخذ لاعتبارات إنسانية بحت، ولا يعكس رأي الولايات المتحدة بسلوك جماعة الحوثي الذي وصفه البيان بـ”الشائن”.
الموقف من إيران مازال غامضا رغم أن إدارة بايدن أعلنت بأنها ترغب في العودة إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه الإدارة السابقة. وحسب وزير الخارجية، فإن مسألة العودة إلى الاتفاق ستستغرق وقتا طويلا، لكنه عاد لاحقا وحذر من أن إيران قريبة من انتاج السلاح النووي. فكيف يمكن أن تنتظر الولايات المتحدة طويلا مع هذا الوضع، الذي يتطلب المعالجة السريعة؟
لابد وأن تسلسل الملف الإيراني يأتي في مقدمة أجندة إدارة بايدن. إيران تحاول أن تستعجل رفع العقوبات كي يتمكن النظام الإيراني من استخدام ذلك في الانتخابات المقبلة وإيهام الإيرانيين بأنه “صمد وانتصر على معسكر الاستكبار العالمي”، ولكن أي اتفاق مع إيران سيقود إلى تحجيم نفوذها ومنعها من التدخل في شوؤن الدول الاخرى، خصوصا الدول الحليفة للولايات المتحدة.
واشنطن طالبت إيران بالالتزام ببنود الاتفاق أولا، أي خفض نسبة تخصيب اليورانيوم الحالية (20%) التي تجاوزت المستوى المتفق عليه (3.5%) بست مرات. إيران رفضت في البداية، لكنها سرعان ما تراجعت، إذ أعلن وزير الخارجية، جواد ظريف، بإن الطرفين يمكن أن يعودا إلى الاتفاق في الوقت نفسه. الموقف الأميركي من إيران لن يتغير، لكن المعالجات تختلف من إدارة إلى أخرى. لاشك أن الولايات المتحدة، وكما أعلنت مرارا، تتشاور مع حلفائها في اتخاذ القرارات في القضايا ذات الاهتمام المشترك، لذلك أصبح من الضروري أن يكون للدول العربية موقف موحد تجاه السياسة الإيرانية القائمة على التدخل في شؤون الدول الإقليمية منذ 42 عاما.
أجندة الرئيس الأميركي مزدحمة بالقضايا الداخلية المُلِّحة وأولاها جائحة كرونا التي فتكت بالمجتمع الأميركي، والتي لم تعالجها الإدارة السابقة كما ينبغي، والبطالة والتراجع الاقتصادي الناتج عن الجائحة، بالإضافة إلى الجماعات اليمينية المتطرفة التي صدّقت بادعاء الرئيس السابق، بأن بايدن لم يفُز في الانتخابات، وأنه انتزع الرئاسة من دونالد ترامب عبر التزوير، وهذه مشكلة معقدة عجز الحزب الجمهوري عن معالجتها حتى الآن، رغم أن كثيرين من أعضائه بدأوا يتحدون هذا الرأي علنا.