متى يلقي قيس سعيد بعصاه لتلتهم أفاعي الفتنة
مختار الدبابي
ينتظر التونسيون أن يلقي الرئيس قيس سعيد بما عنده من أفكار ووعود في برامج واضحة وفي وقت سريع من خلال حكومة السيّدة نجلاء بودن، وذلك بقطع النظر عن مجريات الملف السياسي والصراع مع الخصوم. ليس هناك ما يجبر الأفاعي على العودة إلى جحورها سوى حلول عاجلة وواضحة وقابلة للتطبيق من أجل طمأنة الشارع الاجتماعي، وهو الأرضية الحقيقية التي تسند الرئيس سعيد وترفع من شعبيته، أو تنزل بها إلى أسفل مثل ما فعل مع غيره من السياسيين.
إلى الآن، يقف هذا الشارع مع قيس سعيد ويدعمه بقوة في كل خطواته السياسية، الواضحة منها والغامضة، على أمل أن يفرغ الرئيس من ملف الانتقال السياسي الذي أسست له الإجراءات الاستثنائية ليوم 25 يوليو.
لكن الناس لن تنتظر أكثر من اللازم خاصة أن الصراع السياسي يسير على واجهات متعددة وبأسلوب القطرة قطرة، فقيس سعيد يلوّح بالملفات في وجه خصومه، ويرسل إشارات وتحذيرات دون أن يفتح باب المواجهة القانونية في ملفات الفساد الكبرى التي تحدث عنها، فضلا عن اتهامات بالمؤامرة والاغتيال ووضع العصا في العجلة لمنع تونس من الخروج من أزمتها.
وآخر هذه التحذيرات الغامضة ما قاله الثلاثاء في حديثه عن أزمة البيئة والتحركات الاجتماعية التي رافقتها حين قال “هناك من يسعون (لم يسمهم) إلى استغلال الأوضاع الراهنة للاستفادة منها سياسيا بالرغم من أنهم لم يفوا بالعهود التي قطعوها لمّا تداولوا على السلطة”، وأنهم “يحاولون التحرك، اليوم، ليس من أجل التوصل إلى حلول؛ بل بغاية بثّ التفرقة بين الجهات وتغذية الاحتقان”.
بات التونسيون يعرفون من يتظاهرون ضد قيس سعيد بالاسم، واحدا واحدا، فلماذا يحكي عنهم هو بالتورية والإيحاء والغمز؟ ما الذي يمنع من فتح ملفاتهم من الكبير إلى الصغير؟
إذا كان قيس سعيد يمتلك ملفات كبيرة ومتينة ضد حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي بشأن التمويلات الخارجية واختراق الدولة والتدخل في مسارات الأجهزة الحيوية للدولة من داخلية ودفاع وعدل، فما الذي يمنعه من تحويلها إلى القضاء، والمناخ الشعبي جاهز لإسناده في هذه المهمة.
ثم أين وصل موضوع محكمة المحاسبات والتهم الموجهة لأحزاب كبرى بالاعتماد على التمويل الخارجي للتأثير في انتخابات 2019؟ لماذا لا يتم تنزيل تلك القرارات إلى إجراءات عملية ليس فقط بإسقاط قائمات فائزة في البرلمان وإيجاد مخرج قانوني لحله بدل التجميد الحالي الذي يفتح شهية أنصاره ليتحركوا بهدف إذابة الجليد من حوله. ولكن الأهم من ذلك هو أن يكون ذلك مقدمة لحل الأحزاب المتورطة وتأكيد التهم التي سبق أن كالها الرئيس سعيد للمرحلة الماضية بشأن الفساد.
لو أن الملفات جاهزة وتحولت إلى القضاء ولا يريد البت فيها، فذلك أمر آخر شديد الأهمية، أما أن تكون تلك الملفات نائمة في أدراج المسؤولين، أو لم تكتمل بعد فتلك قصة أخرى.
مع الوقت، القصة باتت مثيرة للتساؤلات ليس فقط في الشارع السياسي الذي بدأت تتسع فيه دائرة معارضي قيس سعيد بل امتد الأمر إلى عامة الشعب التي دعمت الرئيس وتريد منه أن يرفع عصاه سريعا لتتلقّف ما يأفك المعارضون السياسيون. ووجد خطاب التشكيك طريقه إلى الأذهان ومفاده أن الرئيس سعيد لو كان يمتلك ملفات ما تأخر عن دفعها للقضاء وتوظيفها لإسكات الأصوات التي ترتفع مطالبة بإسقاطه والعودة إلى “الشرعية” القديمة.
ربما يكون الرئيس سعيّد قد خمّن بأن امتلاكه لملفات ثقيلة ضد وجوه سياسية بارزة وأحزاب كبرى سيساعده في إسكاتهم ليقبلوا بالانتقال السياسي الحالي، أو أن من مصلحته أن يستمر الجدل عن الفساد والتمويل الأجنبي لفترة أكبر من أجل أن يساعده في كسب تعاطف الناس إلى حين ترتيب البيت والتقدم بمشاريع لتغييرات كبرى سواء على النظام الانتخابي أو السياسي وتحضير الشارع الغاضب للاستفتاء.
لكن الصورة الآن غير التي يخطط لها الرئيس، فالأحزاب والوجوه السياسية البارزة زادت جرعة التحدي لديها، ولا يبدو أنها تبالي بتهديدات أو تخاف من ملفات، حتى أن حركة النهضة الطرف المعني بموضوع الملفات صارت تصدر بيانات شبه يومية تعلن فيها وقوفها بقوة ضد مسار 25 يوليو، وغيرها الكثير.
وإذا كان التونسيون قد خبروا رموز مرحلة ما قبل 25 يوليو ولا يأبهون لنقد أولئك المعارضين لأداء الرئيس وما يتسم به القرار الرسمي بالبطء وغياب رؤية واضحة، فإن الأمر يختلف مع تعاطي الخارج مع الاتهامات التي تلقى بشكل يومي في بيانات سياسية وعلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل، وسيكون لها تأثير مباشر على عجلة التعاون التونسي مع المؤسسات الأجنبية خاصة المالية منها.
ولأجل هذا لا بد أن تكف الدوائر الرسمية عن الصمت تجاه ما يجري وتقابل الاتهامات بالحجج الواضحة التي تعيد الخصوم إلى الوراء بدل أن تترك لهم قيادة المعركة.
ومن المهمّ كذلك أن يغيّر الخطاب الرسمي من أدائه السياسي الكلاسيكي القائم على مبدئية باردة في مواجهة خصومه، وأن يدخل ملعب المناورة لمنع تشكل جبهة قوية ضده، والاختراق ممكن خاصة أن الكثيرين لا يزالون في وضع من يضع ساقا مع السلطة وساقا أخرى مع المعارضة بحثا عن موقع بأي ثمن، وهؤلاء بعضهم كان إلى وقت قريب في صف الرئيس سعيّد، لكن غياب رسائل التفاعل والرغبة في الاستقطاب حالا دون أن يظل من داعمي 25 يوليو.
ولعل المؤشر الإيجابي هو أن الاتحاد العام التونسي للشغل قد عاد إلى دوره الطبيعي في إسناد الدولة ضد “أجندات الخارج” من جهة، وخاصة لعب دوره الاجتماعي بالتفاوض على الملفات التي تخص الموظفين والعمال والتوقف عن التحول إلى عبء إضافي على الدولة من خلال الدور السياسي الذي لعبه في السنوات العشر الماضية.
والأهم من كل هذا أن تتجه الدولة إلى لعب دورها الغائب في السنوات الماضية، وهو الوقوف بقوة من أجل إعادة تنشيط الدورة الاقتصادية وبناء علاقة تعاون مع رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات والنظر في مشاكل قطاعاتهم وحاجاتهم إلى قوانين ميسرة تتيح العمل بحرية وفاعلية لإعادة تحريك دواليب كانت قد توقفت بسبب الروتين الإداري والسياسي وغياب الدولة عن لعب دورها في خلق مناخ ملائم للاستثمار بما يوفر وظائف جديدة تساعدها على الحد من نسبة البطالة الآخذة في الارتفاع.
لن يجد السياسيون المعارضون مجالا للإزعاج إذا أخذت الدولة بالملف الاقتصادي وحققت فيه مع مرور الوقت نتائج مشجعة ونجحت في كسب ثقة المستثمر المحلي ثم لاحقا المستثمر الأجنبي، وأعادت للقطاع الخاص دوره الرئيسي في خلق مواطن العمل والتخفيف عن كاهل الدولة التي تم إغراقها بقرارات توظيف زاد عن اللزوم إما لاعتبارات سياسية أو بهدف شراء الحكومات السابقة للسلم الاجتماعي.
لا تستطيع الدولة أن تفكك ألغام التوظيف العشوائي (عشرات الآلاف من عملة الحظائر، ومثلهم من جرحى الثورة والمفروزين أمنيا والمحسوبين على العفو التشريعي) سوى بالتركيز على عودة حركة الاقتصاد الوطني في مواجهة هجوم التجارة الرخيصة القادمة من الصين وتركيا، وموجة التهريب العشوائي، وسيطرة الشركات التجارية الكبرى القادمة من الخارج على كل شيء.
الاتجاه لمعالجة الملفات الحيوية التي ترتبط بحياة الناس ومصالحهم، وتخفيف الأعباء عن الدولة، كلها عناصر قادرة على تجريد الخصوم من أسلحتهم.. ما سوى ذلك سيظل الأمر كما هو.