مخيّم جباليا… ذاكرة الأحرار
سما حسن
مرّ وقت طويل قبل أن أدخل مخيّم جباليا، الذي تخيّلته مكاناً أسطورياً لا يُرى إلّا في القصص والحكايات، وذلك لأنّ كائناً أسطورياً كان يزورنا لماماً من عمق هذا المخيم، وحيث كنّا نعيش في جنوب قطاع غزّة، وتحديداً في مدينة خانيونس، فقد كانت عمّتي تأتي محمّلة بخيراتٍ لا يمكن للإنسان أن ينسى لذّة طعمها، وبساطة مكوّناتها، وهي تحمل بعضها في سلّة من القشّ فوق رأسها، وتحمل الباقي في أكياسٍ من الخيش بين يديها الاثنتين، وتمشي بسرعة وقوّة، من دون أن تفلت السلّة الضّخمة من فوق رأسها، حتّى إذا ما وصلت حيث يجلس جدّي (أبوها) أمام باب بيتنا الواسع الجميل المبني من الإسمنت، والمزيّن بحديقة مُنسَّقة، تقف لتضع حملها أمامه، وتنحني لتقبّل يده، ثمّ جبينه، وتبدأ مهمّتها مثل كلّ مرّة بأن تجلس إلى جواره، ونجلس حولهما نحن الأحفاد الصغار، وكأنّ على رؤوسنا الطير، لنستمع إلى حكايات المخيّم وأخباره، حتّى بتنا نعرف أسماء جيرانها، وملامح الحارة الضّيقة، ومشكلة المياه التي تتسرّب وتُغرق فراش أطفالها من بيت الجيران الآيل إلى السقوط، فإذا ما كبرنا قليلاً، بدأت تشكو لجدّي بتخوّفٍ قد تحقّق، من إفراغ بعض بيوت المخيّم، ونقلهم إلى منطقة قريبة ضمن مشروع سكني أقامته الإدارة المدنية للاحتلال بمحاذاة المخيّم للتقليل من كثافة السكّان فيه هدفاً ظاهراً، لكنّ الهدف الباطن، الذي لم يتحدّث عنه أحد، فكان التقليل من الصورة العامّة للّجوء والتجذّر والتمسّك بذاكرة الأرض التي تركها أهل المخيّم في العام 1948، وحيث استقرّوا هنا في مخيّم أقامته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بالقرب من بلدة جباليا، ولذلك استمدّ منها اسمه.
دخلت مخيّم جباليا في طفولتي للمرّة الأولى والأخيرة، قبل أن تنتقل عائلة عمّتي إلى مشروع إسكاني قريب، وأصبحت ذكرياتي عن المخيّم، ذلك المكان الأسطوري كما تخيّلته، هي زيارة لعدّة أيام أمضيتها في عالم غريب جاذب، يعبق بهواء مختلف، وبأناس مختلفين، يشبه بعضهم بعضاً، وقريب بعضهم من بعض، وبيوتهم متآكلة وضيّقة، ولكنّها تتّسع للجميع، لأنّها غالباً ما تكون مفتوحةً ولا تُغلَق، ولا يمكن أن تعرف بيت الجارة من بيتك، فحين تجلس عمّتي في باحة البيت الضيّق مهشّم الأرضية لتعدّ الخبز المنزلي، تزيح جارتها العجوز ستارةً مهترئةً، ويطلّ رأسها المُحاط بغطاء رأس أبيض، وترفع طرف ثوبها المطرّز لكي لا يصيبه بعض الماء المتجمّع في حفرة صنعتها الأرضية المهشّمة، وحيث تتجمّع فيها مياه المطر، أو مياه تنظيف البيت، وتسأل عمّتي عن بعض عروق الميرمية، فتشير عمّتي بذراعها التي علق بها العجين باتجاه مطبخ معتم صغير، فتدلف الجارة وكأنّ المطبخ يخصّها، فتتناول من رفّ على وشك السقوط أرضاً بعض الأعواد من علبة من الصفيح، ثم تخرج وهي تشكر عمّتي، وتخبرها ألّا تنسى أن تعرّج عليها للذهاب معاً إلى بيت عزاء جارهم الذي تُوفّي الليلة الماضية.
في مخيّم جباليا، وحيث الأزقّة والسوق المزدحم، والمكتبة الوحيدة، والجدران التي كتبت عليها شعارات قديمة عن العودة، والشبّان الذين يتناثرون في قارعات الطرق الرئيسة القليلة التي تُفضي بك إلى أضيق الأماكن التي قد تتخيّل أنّ بشراً يعيشون فيها… في المخيّم تسمع أحدَ الشباب يترنّم بأغنية لمارسيل خليفة، فيما يمسك أحدهم كتاباً لأشعار محمود درويش، ويعلو صوته بمطلع من بيت شعر غزليّ حين تمرّ فتاة جميلة، ثمّ يكمل قراءة أبيات أخرى عن الوطن والخيبات العربية بعد أن تمرّ الفتاة، ويختفي ذيل فستانها الملوّن داخل زقاق ضيّق من تلك الأزقّة التي لم أدلفها وحدي أبداً، لأني كنت سأتوه قَطعاً، فكلّها يشبه بعضها بعضاً، ولكنّ ابنة عمّتي الشابّة كانت تمسك بذراعي، وتسير بي بينها لتحدّثني عن سكّان كلّ بيت نمرّ به، والذي تميّزه باسم ابنة جميلة على وشك أن تتزوج، أو ابن شاب يطارد الفتيات بكلمات غزليّة، فيما يتدلّى شعره الطويل مع شاربه، فيُخفيان ملامح وجهه، ويصبح الشباب كلّهم يشبه بعضهم بعضاً، ويتحوّلون بعد سنوات إلى شباب انتفاضة الحجارة، حيث اشتعلت الشرارة الأولى من المخيّم الأسطوري، وليس لك أن تشعر بالعجب لذلك، ليس لك أن تتعجّب لأن اسم جباليا مشتقّ من الكلمة السريانيّة “جبالية” المأخوذة من جذر “جَبْلا”، وتعني الفَخّار والطّين، وكلاهما أصل الكون وبداية الحياة، وبداية الحكايات كلّها التي يُخلّدها التاريخ.