مصر تتخلى عن حذرها في الردّ على تركيا
محمد أبو الفضل
لن تكون الانتقادات القاسية التي وجهتها القاهرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان استثناء في طريقة التعامل الجديدة مع أنقرة، طالما استمر في نشر الشائعات والتحريض عليها. فقد حمل بيان وزارة الخارجية المصرية مساء الثلاثاء الماضي، ردا عنيفا على ادعاءات أردوغان أمام الأمم المتحدة حول وفاة الرئيس الإخواني محمد مرسي، وبصورة لم تعهدها دبلوماسية اعتادت الهدوء، لأن الرجل تجاوز كل حدود اللياقة والمنطق، وصمّم على الاستماع لصوته فقط. وذكرت القاهرة في رسالتها نقاطا جوهرية تمثل الدليل على عبثية حديث أردوغان عن العدالة أمام العالم.
تعبّر اللغة الجديدة التي استخدمتها القاهرة مع أردوغان، عن غضب وضجر واسعين من تصرفاته. وتؤكد أن سياسة ضبط النفس التي التزمت بها القاهرة، أملا في أن يعود الرئيس التركي إلى الصواب ويكف عن التدخل في الشؤون الداخلية، لم تعد مجدية.
وهذه من المرات النادرة التي تردّ فيها جهة رسمية بحدة وقسوة معا في السنوات الأخيرة على تصريحات لأردوغان أو غيره، وصلت فيها درجة اتهامه صراحة بالإرهاب والإشارة إلى جرائم حرب ارتكبها في حق شعبه ودولة مجاورة، هي سوريا.
اتسمت إدارة ملف السياسة الخارجية في مصر عموما بتجنب التصعيد، وفتح الأبواب والنوافذ مع دول عديدة، في سياق رغبة عارمة في الانخراط أولا في هموم الداخل وحل أزمات متراكمة منذ عهود قبل الشروع في الاشتباك مع أي من القوى الإقليمية.
لكن في حالة أنقرة تشابكت أزمات الداخل مع الخارج، لأن الرئيس التركي بات واحدا ممن يسخّرون تصوراتهم الشخصية وأفكارهم العقائدية في إدارة العلاقات بين الدول، وهو ما ظهرت تجلياته مع مصر التي قررت التخلي عن سياسة رد الفعل بعد أن لازمتها فترة طويلة، والتوجه نحو الهجوم كخير وسيلة للدفاع، وإرباك الخصوم الذين استراحوا لعدم نفاد صبر الطرف المقابل، ما أدى إلى مواصلة الانتقادات والتدخلات.
جاء هذا المنحى من رحم مجموعة من التقديرات، أهمها أن تركيا لا تريد رفع يدها عن دعم وتأييد حركات الإسلام السياسي بجميع ألوانها في المنطقة ولا تنفك عن التأثير سلبا على المصالح المصرية، من خلال دعم الإخوان والتنظيمات التي درجت على ممارسة العنف في أبشع صوره، وأن رهان القاهرة على مراجعة هذه السياسة غير دقيق، وأثبت رعاية الخطاب التحريضي من أجل اندلاع ثورة ضد النظام الحاكم في مصر أن المسألة مستمرة، ما يستوجب عدم التهاون معها، والتفكير في آليات ترمي الكرة في ملعب الآخر.
وجهت بعثة مصر لدى الأمم المتحدة في نيويورك الأربعاء، خطابا رسميا إلى الجمعية العامة للتحقيق في ادعاءات وفاة محمد مرسي. وهي أول ضربة دولية قوية تريد تفريغ كلام أردوغان من معانيه السياسية التي وجدت رواجا لدى البعض. وقد تتلوها ضربات أخرى في ملف الأزمة الليبية، حيث تؤكد تفاصيل كثيرة تورط أنقرة في دعم ميليشيات ومتطرفين وإرهابيين ومرتزقة يعرقلون التسوية السياسية المنشودة.
والشاهد أن الطائرات التركية المسيرة خرقت سماء ليبيا، والمعدات العسكرية التي تسربت عبرت موانئ مختلفة وصلت إلى كتائب مسلحة متحدية القوانين الدولية في حظر تصدير السلاح إلى ليبيا. وهناك الكثير من الأدلة الدامغة التي تثبت تورط أنقرة، والتي سيتم تفعيلها في الفترة المقبلة، بآليات متباينة ربما لا تترك أمامها منفذا للهروب منها.
ولعل دخول مفوضية الأمن والسلم التابعة للاتحاد الأفريقي، وترأس مصر الدورة الحالية للاتحاد، على خط الأزمة الليبية من بين الأوراق التي ستقوم القاهرة بتفعيل دورها قريبا، وتتصدى للدول التي ساهمت خروقاتها في استمرار تعثر عملية التسوية السياسية، وفي مقدمتها تركيا، التي وجدت في إجراءات البعثة الأممية إلى ليبيا ملاذا لمواصلة اعتداءاتها.
لدى مصر معلومات كثيرة حول طبيعة العلاقة التي تربط قيادات إسلامية ليبية تقيم في إسطنبول، وصفقات تم عقدها سرّا مع شخصيات نافذة في حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحجم رؤوس الأموال النشطة والخاملة في البنوك التركية، والتي ورثتها حكومة الوفاق من العهد السابق، والكثير من العناصر الإرهابية التي نقلت من الأراضي السورية، ومنها إلى تركيا ثم إلى الأراضي الليبية. وبعضها أسماء موضوعة على لوائح إرهاب دولية، إذا تم الإفصاح عنها وتقديمها إلى الأمم المتحدة سوف يجد الرئيس أردوغان نفسه في مأزق بالغ الحساسية، ويضاعف من خسائره في الصراعات التي قرر الانخراط فيها.
فشلت تصورات القاهرة بشأن إمكانية تراجع أردوغان عن غيّه، وأخفقت إشارات اقتصادية متنوعة حول عدم المساس بمشروعات تركية بمصر في أن تفرض عليه التعقل، وتعامل مع التريث والحذر على أنهما ضعف، ما جعله يتمادى في التصعيد على أكثر من جبهة.
تيقّنت القاهرة أن أردوغان لن يتخلى عن سياسته رغم ما يتكبده من خسائر، لأنها جزء من مشروعه، وإذا تخلى عنها قد ينهار حكمه، في وقت يعاني فيه من تفسخ داخل حزبه، وعراقيل خارجه، وربما تستثمر هذه اللحظة لتوجيه المزيد من اللكمات السياسية، بما يشتت انتباهه، ويردعه عن التركيز في استهداف النظام المصري.
أهداف لحساب القاهرة
سجلت القاهرة عددا من الأهداف في مرمى تركيا بشأن غاز شرق البحر المتوسط، ونجحت في تطوير علاقاتها مع دول رئيسية في المنطقة ومن خارجها، لها علاقة بملف الغاز، بشكل أدى إلى تضييق الهامش السياسي أمام أنقرة، وجعلها تلوّح باللجوء إلى خيارات عسكرية لتحقيق أغراضها. الأمر الذي كبحته قوى دولية لها مصالح حيوية في شرق المتوسط. وفرض على أنقرة عدم التوقف عن التدخلات السافرة في بعض الملفات الإقليمية، جريا وراء مساومة هنا أو هناك تقلل مما تتكبده من خسائر سياسية واقتصادية.
يأتي القصف السياسي ضد تركيا من خلال دوائر عديدة، في سياق أشمل يتعلق بتوجهات ترى أن مصر بلغت مرحلة جيدة من النضج في مجال الاستقرار يمكنها من الإمساك بزمام المبادرة والاقتراب من بعض الملفات الإقليمية التي مرجح أن تشهد تحولات مصيرية في الفترة المقبلة، سوف تؤثر تداعياتها على البلاد، إذا استمر العزوف عن المشاركة بفاعلية في قضايا مهمة، أو واصلت التحرك على جبهات عدة، بعضها وصل حد التناقض، أو حافظت على ترددها في عدم حسم مواقفها من الملفات. وقد تكون كمن يريد أن يربح كل شيء، فيخسر كل شيء، لأن هذه السياسة أصبحت مزعجة لدول تعول على مصر أن تكون حليفا استراتيجيا قويا لها.
الحاصل أن القاهرة مالت كثيرا نحو سياسة الخطوط المتوازية والمعادلات المتوازنة، لكنها يمكن أن تتخلى عن حذرها المعهود عندما يرتبط الأمر بوقوع أضرار مباشرة عليها، فهي تحركت بقوة لمواجهة تركيا بعد أن بدأت ممارسات الأخيرة وشائعاتها المتباينة تجد أصداء إيجابية لدى البعض، وأبدت ملاحظات على أداء إثيوبيا أمام الأمم المتحدة في ملف سد النهضة عقب تيقّنها من أن أديس أبابا لا تحرص تماما على التفاهم سريعا مع القاهرة.
وإذا واصلت السياسة المصرية ربط تحركاتها بمدى ما يقع عليها من أضرار ستظل تدور في حلقة مفرغة، لأنها تمنح الخصوم فرصة المبادرة وتوجيه الدفة نحو الأهداف التي يريدونها. وهو ما بدأت تنتبه إليه جيدا، بعد أن تكبّدت خسائر كبيرة جراء التمسك بحذر مبالغ فيه، وتريث أوحى بالضعف، وتعيد ترتيب أوراقها بما يسمح باستخدام سلاح المبادأة مع دولة مثل تركيا، ربما تضطرها إلى التفكير ألف مرة قبل أن تقدم على تصرّف يمس مصالح مصر.