مفاوضات الدوحة: المبالغة في التفاؤل الأميركي؟
ليس واضحاً ما إذا كانت “الطحشة” الأميركية الدبلوماسية التي تنفذها إدارة الرئيس جو بايدن في الشرق الأوسط ستفضي الى ما يصبو إليه الرئيس ومعه فريقه اللصيق. هو يريد أن ينتزع انتصاراً دبلوماسياً خارجياً عبر فرض صفقة سياسية – أمنية في غزة على كل من إسرائيل و”حماس” وخلفها إيران من شأنها أن توقف الحرب إما بالتقسيط، أي عبر عدة مراحل يتم فيها تبادل الأسرى والرهائن وتخفيف الضغط عن المدنيين في غزة، وإما بشكل نهائي.
والصفقة التي نتحدث عنها هي التي تنادي بها “حماس” اليوم. إنها مشروع الرئيس جو بايدن الذي عرض في الثاني من تموز (يوليو) الفائت، ثم ماطلت إسرائيل، ثم طويت صفحتها من قبل الطرفين، وكأن الطرفين، إسرائيل و”حماس” تتقاطعان على رفض انهاء الحرب في الوقت الحاضر. ومن هنا فإن “طحشة” واشنطن الراهنة التي تتم تحت وطأة احتمال نشوب حرب إقليمية بين إسرائيل وإيران وخلفها فصائلها في لبنان وغيره من الساحات التي تتحكم بها، ترتدي أهمية كبيرة بالنسبة الى الرئيس الأميركي الذي سبق أن اصطدم مرات عدة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن التهدئة، الهدنة وإنهاء الحرب.
وكان آخر الصدامات بين الرجلين مرة في واشنطن عندما اجتمعا على هامش زيارة نتنياهو ضيفاً على الكونغرس، ثم بعد عودته وقيامه بإجازة عمليتي الاغتيال اللتين أودتا خلال ساعات معدودة بحياة رئيس المكتب السياسي السابق لحركة “حماس” إسماعيل هنية، وقائد القوات العسكرية لـ”حزب الله” فؤاد شكر. ومع ذلك يعرف الرجلان، بايدن ونتنياهو، أن العلاقة بين البلدين تتجاوز الشخصنة، وتتجاوز الخلافات على أسلوب إدارة المعارك والحروب الكبيرة… والدليل على ذلك أن أميركا وبعد مدة وجيزة من التلاحم مع حرب إسرائيل على قطاع غزة، بدأت في الافتراق التكتيكي عن الحرب التي شنتها الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو ومعه التوليفة الحكومية اليمينية المتطرفة.
وبالتالي ليس سرّاً أن الإدارة الحالية وإن يكن الرئيس بايدن راحلاً في كانون الثاني (يناير) 2025، فإن احتمال فوز المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس من شأنه إن حصل أن يديم النَفَس “الأوبامي” في البيت الأبيض. لا بل إنه يمكن أن يحيي مناخاً “تقدمياً” توسعت قاعدته في الحزب الديموقراطي مع تفاقم حرب غزة. وإذا دخلت هاريس البيت الأبيض كرئيسة خلفاً لبايدن فسيكون خبراً سيئاً لبنيامين نتنياهو وتوليفته الحكومية، هذا إن لم يخرج من السلطة قبل 20 كانون الثاني 2025. وحتى لو وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فإن حرب غزة يفترض أن تكون وصلت إلى نهاياتها، أقله بالشكل الحالي للحرب. فقد انتهت قبل أكثر من شهر ونيف العمليات الكبرى، ومع السيطرة على خط “فيلادلفيا” على الحدود مع مصر، وفصل الجنوب عن الشمال عند خط “نيتساريم”، أطلق الجيش الإسرائيلي المرحلة الثالثة من الحرب التي تعتمد على العمليات الخاصة، والتوغلات المتنقلة الخاطفة والمحدودة الوقت بهدف منع حركة “حماس” من إعادة بناء الهيكلية العسكرية التي تضررت كثيراً، وذلك على العكس مما تدعيه القيادة. وبما أن جو بايدن خرج من السباق الرئاسي فقد توسعت هوامشه السياسية مع إسرائيل، وصار بإمكانه أن يطلق حراكاً دبلوماسياً أكثر هجومية وصرامة من دون أن يفكر بالانعكاسات على حملة انتخابية. صحيح أنه يدعم كامالا هاريس، وأنه لا يريد أن يورطها في خلاف كبير مع اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وخصوصاً أنها معتبرة أقرب إلى التيار التقدمي في الحزب الذي يرعاه من خلف الستارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، العائد ربما إلى البيت الأبيض للمرة الثالثة عبر هاريس، لكن الرئيس بايدن مع إدارته، وفي مناورة ذكية تمكن من تعزيز الموقف الأميركي في الشرق الأوسط. أولاً من خلال مسارعة الإدارة في ضوء تهديدات إيران و”حزب الله” بضرب إسرائيل إلى نشر قوات عسكرية كبيرة ونوعية للدفاع والهجوم، مما منح تل أبيب إلى حد بعيد شعوراً بالأمان الاستراتيجي، لا سيما بعد بيان “الخماسية الغربية” (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، المانيا، إيطاليا) الذي أيد الصفقة الأميركية المطروحة لوقف النار في غزة، وقدم التزاماً مشتركاً للدفاع عن إسرائيل. ثم أطلق حملته الدبلوماسية في المنطقة عبر تحديد موعد 15 آب (أغسطس) (أمس) لبدء المفاوضات لمدة يومين لإنجاز الصفقة في غزة. ولهذا الغرض جرى توزيع الموفدين المرتبطين بالبيت الأبيض على العواصم المعنية، من المستشار في البيت الأبيض آموس هوكشتاين إلى بيروت لمعالجة التصعيد بين “حزب الله” وإسرائيل والدفع قدماً بمشروع الصفقة المعروض على اللبنانيين منذ أشهر طويلة ولم يقبل به “حزب الله” حتى يومنا هذا، إلى كبير المستشارين في البيت الأبيض بريت ماكغورك الى القاهرة لتنسيق المواقف في المفاوضات بشأن غزة، فمدير “وكالة الاستخبارات المركزية” السفير وليام بيرنز إلى الدوحة. الرسالة أن البيت الأبيض هو الجهة المعنية مباشرة.
وبالتزامن تأتي صفقة بيع أسلحة متطورة لإسرائيل عشية اطلاق جولة المفاوضات كرسالة إلى نتنياهو مفادها أن واشنطن من خلال الحشد العسكري، والدعم بالأسلحة المتطورة ستبقى ضامنة بقوة لأمن إسرائيل، لكنها تريد وقف حرب غزة لاعتبارات، منها ما هو أميركي، ومنها ما هو في مصلحة إسرائيل نفسها. وإذا ما دققنا في صفقة الأسلحة الأخيرة التي تبلغ قيمتها أكثر من 20 مليار دولار أميركي، نجد أنها تتضمن أسلحة هجومية تمثل رسالة أميركية لإيران، وهذا يعني 50 طائرة “أف – 15IA” البعيدة المدى الأكثر تطوراً، وتحديث 25 طائرة إسرائيلية “اف-15 I” ليصبح لدى إسرائيل 75 طائرة “اف – 15 IA” وهي ذات قدرات استراتيجية قادرة على القيام بمهام في دائرة تصل الى 2500 كيلومتر من قواعدها (الأهداف الحيوية الإيرانية تبعد مسافة 1000 إلى 1500 كيلومتر من اسرائيل)، وفي الصفقة أيضاً صواريخ “آمرام” جو-جو الأكثر تقدماً في العالم، و30 ألف قذيفة مدفعية للدبابات و50 ألف قذيفة مدفعية ومعدات أخرى. وكما أسلفنا تحمل هذه الأسلحة بنوعيتها والطرازات رسالة لإيران أيضاً مفادها أن الولايات المتحدة تمنح إسرائيل قدرات تمكنها من التعامل مع أهداف في العمق الإيراني.
انطلاقاً ما تتقدم، تمثل الحركة الدبلوماسية الهجومية للولايات المتحدة في المنطقة فرصة يعتبرها بعض المراقبين الفرصة الأخيرة قبل أن تتدهور الأمور الى حرب أو حربين. ويستغل الرئيس الأميركي وفريقه الفرصة من أجل تسجيل “هدف” لصالح المرشحة كامالا هاريس، والجائزة تكون وقفاً لإطلاق النار في غزة، قبل موعد الانتخابات في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. هذا في وقت بلغ عدد القتلى في غزة أكثر من 40 ألفاً. لكن العوائق كبيرة أمام الوسيط الأميركي. فالطرف الإسرائيلي، أي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومعه زعيم حركة “حماس” المطلق يحيى السنوار يواصلان زرع الألغام. كلاهما يشرب من بئر التصعيد التواصل. وحتى الآن لم يتم التأكد من نوايا طهران الحقيقية. فهي حتماً لا تريد حرباً شاملة لأنها ستخسرها بالتأكيد. لكنها تراهن على مواصلة حروب متوسطة الوتيرة في غزة، ولبنان، ومشاكسات عسكرية في اليمن والعراق وسوريا.
لكنّ التقديرات في إسرائيل مختلفة جداً، لأنها ترفض استمرار الحرب المنخفضة الوتيرة خارج غزة كونها لا تتحكم بها، وتعتبرها استنزافية وخطيرة على الداخل وعلى مبدأ الأمان في إسرائيل. وهنا ترى إسرائيل أن الحرب المتعددة المستويات في غزة تلعب لصالحها وهي تعمل على تقويض حركة “حماس على المدى البعيد. وفي المقابل فإن حرب الاستنزاف على الحدود الشمالية مع “حزب الله” يجب وضع حد نهائي لها، ولو استدعى الأمر توسيع الحرب. وهذه هي فحوى الرسالة التي حملها هوكشتاين إلى لبنان قبل يومين.
قصارى القول إن المنطقة تسير على حبل رفيع جداً. وعلى الرغم من مسارعة واشنطن الى ضخ مناخات تفاؤلية على مفاوضات الدوحة، يستحيل القول إن المنطقة باتت في مأمن من الحريق الكبير.